سـرّ «الملوخية» بين اللاجئين الفلسطينيين ولبنان
بقلم: ياسـر عـلي
في العام 2000، زرت مخيم نهر البارد عدة مرات، وفي إحدى
الزيارات كانت بعض الزواريب شبه مسدودة بأكوام من عروق «الملوخية» العارية، بعد أن
تعاونت نساء البيوت المتجاورة اللواتي كنّ يجلسن على الأرض أمام بوابات البيوت في
تلك الزواريب، ويقطفن أوراق الملوخية بكميات كبيرة تقدر بعشرات الكيلوغرامات..
كان الأمر مستغرباً بالنسبة إليّ، وعلمت حينها أن في
«الملوخية» سرّاً يجمتع لدى الأهالي، لكونهم ينحدرون من قرى فلسطينية اشتهرت بهذه
الطبخة، ولأنهم يقيمون في مخيم نهر البارد المتخم بها أيضاً.
* * *
«الملوخية».. أكلة مغرقة في التراث، صمدت عبر التاريخ،
بخلاف كثير من الأكلات اللذيذة التي اندثرت مع مرور العصور وتعاقب الأجيال..
وها هو موسم «الملوخية» قد بدأ، وبدأ الحديث عنها في
المجالس.. فكثيراً ما يحتلّ الحديث عنها صدارة المجالس القيادية الفلسطينية.. في
لبنان على الأقل. ويتحدث القادة عنها كذوّاقين أو كطباخين محترفين..
ويسألون بعضهم عنها:
ورق أم ناعمة؟! مع أرز أم بدون؟! غماس أم بالملعقة؟!
بالثوم المقلي أم النيئ؟! وكيف تفرمونها؟ سكينتين، أم في كفّ اليد، أم بالماكينة
الكهربائية؟!
هل بدأ موسمُها أم لا؟! مَن طبخ منها قبل الآخر؟! من زرع
منها في بيته؟! طبخات أول الموسم مزروعة في الخيم أم تحت الشمس؟! أرضها طيّبة أم
لا؟! تشترونها بأغصانها أم مقطوفة؟!
ثم يبدأون بألقابها: الخضراء الشريفة! الملوخية الوطنية
الفلسطينية (كالنشيد الوطني الفلسطيني)!
ويتنافسون فيها إلى حدّ أن يزعم البعض أن قريته هي مصدر
«الملوخية». لكن الجميع متفقون بأن أشهر القرى بطبخ «الملوخية»، هي صفورية ثم
سعسع، ثم.. ثم..
باختصار.. تفنّن الفلسطينيون بهذه الطبخة، واحترفوها،
وأنزلوها منزلة رفيعة.. وباتت لها أسرارها ومراتبها..
وحين لجأ الفلسطينيون إلى لبنان، ماذا وجدوا فيه؟!
وجدوا أهل لبنان لا يعرفون طعاماً اسمه «ملوخية»،
وتهكّموا على الفلسطينيين بهذا الأمر، ولكنهم عادوا واقتنعوا بما يفعله اللاجئون.
يقول الكاتب أحمد الحاج علي في كتابه «مخيم برج البراجنة
– ظل الموت والحياة»: من التحسينات التي أدخلها اللاجئون على صعيد الزراعة أن
اللبنانيين «لم يكونوا يأكلون الملوخية حتى أتى الفلسطينيون، فقد كانوا قبل ذلك
يستخدمونها علفاً لدوابهم»، هذا فضلاً عن أنهم أدخلوا إلى منطقة برج البراجنة وجبة
الفلافل التي لم يكونوا يعرفونها أيضاً. ويذكر الكاتب أن هناك فيلماً بعنوان
«الملوخية» أخرجته الفلسطينية لاريس صنصور عام 2006.
وحدّثني أحد شهود تلك الفترة، عن أنهم عندما وصلوا إلى
سهل عكار وجدوه مليئاً بـ«الملوخية» التي كانت تموت «على إمها» لترعاها الدواب،
عندها سرحت جموعٌ من اللاجئين في السهل الفسيح، تحصد ما تستطيع من الملوخية. كان
الطرفان رابحين؛ اللبناني يريد تنظيف سهله، والفلسطيني يحصل على قوت موسم كامل من
«الملوخية».
لكن الموسم الثاني لم يكن كذلك، فقد تذوقها أهالي عكار
مطبوخةً عند اللاجئين، واختلف وضع «الملوخية» في أرضهم، إلى أن أصبحت طعاماً ذا
شأن لديهم.. حتى ظن البعض أنها من تراث المنطقة.
* * *
لماذا كل هذه الحكاية؟
«الملوخية»، هي مثال كاريكاتوري عن ما فعله الفلسطينيون
في لبنان، لأني لم أُرِد أن أكتب عن تفاصيل ما أدخله الفلسطينيون من تحسينات على
النظام المالي والبنوك في لبنان، بعدما جلبوا معهم أموالاً بقيمة 150 مليون جنيه
(بما يساوي بعملة اليوم 15 مليار دولار). وجلبوا معهم البنك العربي وأسسوا بنك
إنترا، ووطدوا دعائم النظام الاقتصادي اللبناني.
كذلك جلبوا معهم أهم شركة تأمين عربية في ذلك الوقت،
وأسسوا مكاتب الهندسة الأشهر في لبنان، وساهموا بالعلوم والفنون على أعلى
المستويات والرموز.
وجلبوا معهم 15 ألف لاجئ لبناني كانوا يتمتّعون بحق
العمل في فلسطين (وفق دستور فلسطين 1922)، وكانوا يعملون في المطارات (قلندية
واللد) وميناء حيفا، وميناء يافا، والمصانع الفلسطينية.. و.. و.. فبُني مطار بيروت
بعد إقفال مطارات فلسطين.. وتوسع مرفأ بيروت بعد إقفال موانئ فلسطين.
إذن، أتقن الفلسطينيون «الملوخية» وتفننوا فيها، ولم يكن
اللبنانيون يعرفونها، فعلّموهم كيف يصنعونها وكيف يأكلونها.. ثم أنكر بعضهم أنها
طبخة فلسطينية، وتبنّاها تراثاً له، مُنكراً حق الفلسطينيين بها..
بكلمة، وليس في الأمر تسطيح للحالة، لأنّ هذا هو ما حدث
مع بقية الإبداعات الفلسطينية في لبنان!
المصدر: شبكة العودة الإخبارية