القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الإثنين 25 تشرين الثاني 2024

شتات أصعب من الشتات

شتات أصعب من الشتات

بقلم: ليلى عماشا

يُحكى أنها يوم استقرت في مخيم عين الحلوة، لم تكن تأبه لكل المعاناة التي تواجهها وسكان المخيم. لم تكن الكثافة السكانية تعنيها رغم أنها تفضّل دائماً الهدوء والبعد عن الناس. ولا كانت تهتم لكل الصعاب التي تواجهها ككل الآخرين والأخريات. لم تكن تتذمر أبداً وبدت طيلة العمر الذي قضته هنا، بعيدة كل البعد عن أي تجمع أو تحرّك يطالب بتحسين ظروف الحياة أيّاً كان المطالِب ومهما تغيرت وجوه المطالبين بحدّ أدنى من الحقوق الإنسانية للشعب الفلسطيني في الشتات. اختارت دوماً أن تتمتم بغضب واضح "بديش اشي من هون".

"هون" لم تكن تقصد فيها حتماً مخيم عين الحلوة بحد ذاته... "هون" كان كل مكان غير بيتها. بيتها الساكن ذاكرتها كطفل خرج ولم يعد. حتى يوم ارتمت وتحولت من السيدة الغاضبة الى السيدة العاجزة عن خدمة نفسها، والصامتة في أغلب الأحيان، والمتذمرة من كل ضيف قد يمرّ بها للسؤال عنها، عارضت بشدة الانتقال الى بيت ابنتها في المخيم ذاته. فالحاجة مريم ما كانت ترغب في تغيير نمط غربتها ولو في البقعة الجغرافية نفسها. لكنها استسلمت في نهاية الأمر، يوم اقتحمت بيتها رصاصة طائشة كادت ترديها، لولا حكمة ما من بقائها على قيد الحياة، والغضب.

انتقلت بثيابها فقط، ومحفظة فيها أوراق ملكيتها لدونمات شاسعة في فلسطين، وتحولت الى العجوز المشاكسة التي "تنكد" على أحفادها عيشتهم، رغم محبتها الكبيرة لهم ورغم حرصهم دائماً على إرضائها. فلم تكن تترك فرصة لانتقادهم، بكلام شحيح ولكن ثاقب. حتى جاء ذلك اليوم، الذي أرخى فيه أصغر أحفادها المراهق لحية خفيفة وبدأ يتحدث بلهجة مختلفة ونمط جديد. "الكفار" "الطريق الى الجنة" كانت تعابير تبدو عادية بالنسبة إلى أهل الفتى، لكنها كانت بالنسبة لها مؤشراً مخيفاً على "ضياع الولد". فصارت تسائله كلما خرج وعاد، أين كنت ومع من... وحين تتوجس الكذب في أجوبته المتكررة كانت تتهمه أنه كان في المسجد. هي التي كانت الصلاة لغتها الأم كانت تتغضب عليه إن ذهب الى المسجد بداعي الصلاة.

بدت في تلك الفترة غريبة الأطوار. بل وصل الأمر الى اعتبارها دخلت مرحلة "الخرف" كلما صاحت بالفتى أن يكفّ عن الذهاب الى المسجد ذاك، وكلما هزأت من تعابيره أو عيّرته بأصدقائه "الدجالين". وأحياناً، كانت تحاول أن تغير استراتيجيتها، فتنادي عليه "حمادة تعال جنبي بدي أنصحك نصيحة... صلاتك هناك مش مقبولة. الكافر مين يكفر الناس". ثم تصمت لتترك لصوت الرصاص المتقطع الناتج من اشتباك ما أن يلحن تمتمتها: "الطريق للجنة تمر من فلسطين يا كلاب يا قتالين القتلى".

يوماً بعد يوم، ومع اشتداد الحالة "الإسلاموية" في نشرات الأخبار التي تتابعها باهتمام يكاد يمنع سكان المنزل من سماع مضمونها لكثرة أسئلتها، ومع تسارع وتيرة نمو "الأشكال" التكفيرية داخل المخيم، كان أهل حمادة قد بدأوا في فهمها أكثر. لكنهم كانوا يلزمون الصمت كي لا تقلق أكثر، وكي لا يضغطوا على المراهق الذي يبدو متأثراً الى حد ما بالمدّ التكفيري. كان الكل يعتقد أنها مسألة "ثورة المراهق على السائد"... إلا هي. كانت ترى أن "الولد" ـ وغيره كثيرون ـ قد أصبح هدفاً يُعبأ ويتهيأ للاغتراب عن قضيته الأساس ولخوض معارك تجعله ضحية أخرى للجهل والفقر والغربة والحرمان... كانت تريده شهيداً الى فلسطين، أو نجماً يتحدث عنه الناس: "يا الله شو صوتك حلو لما كنت تغنيلي "موطني"! غنيها ولك ستي... خليها ببالك، الغنا مش حرام. محبة فلسطين هي صراطنا المستقيم اللي يودينا الجنة". كانت تبدأ حديثها بصوت خفيض ينتقل الى مستوى أعلى من الارتفاع والحدة كلما تجاهلها حفيدها المدلل أو نطق بكلمة لا توافقها.

مريم، التي تتجه الى أواخر سبعينياتها، لم تكن تعرف القراءة ولا تعرف من الفصحى إلا محفوظاتها القرآنية لكنها كانت تقرأ في عيون الحفيد شتاتاً أصعب من الشتات، ففكرة أن يكون تحول الى "تكفيري" كانت تجعلها عاجزة فعلاً حتى عن ترداد محفوظاتها. حتى بلغت بها المسألة حد الكفر أمامه لاستفزازه.

تجددت الاشتباكات. التكفيريون مجدداً. "ولاد الحرام، على حد قولها، بدهن يضيعونا ويضيعوا الولد! حمادة تعال احكيلك نصيحة... هدول بدهن يحرقونا قبل ما نرجع عفلسطين".

أحمد، خرج ولم يعد، وبدورها طلبت أن تغادر عين الحلوة وتخوض اغتراباً جديداً في مخيم اخر عند ابنة أخرى. خرج أحمد وعاد ولم يجدها فقصد خالته لزيارتها. حليق اللحية، معاتباً.. وين خليتيني للكفار! ما بدك ارجع ع فلسطين؟!

حاول أن يخبرها عن تلك الدوامة التي كادت تسرق منه نشيدها الأحب الى قلبها بصوته. حاول أن يشكرها ربما على صدق حدسها وعلى حسن حزمها. أخبرها أشياء كثيرة لم تسمع معظم تفاصيلها. ضمت حمادة، حفيدها المدلل الى صدرها تتمتم "صار وقت الصلاة يا حبيبي... قوم اتوضا وصلي وبعدها احكيلي... كيف بدك ترجع فلسطين؟".

هي حكاية، حكاية الفطرة الفلسطينية والحدس الصادق، الذي يرفض كل راية تأكل من لحم القضية وتعتاش على جثث الأبرياء. حسّ سليم يميّز بين كافر بفلسطين ومؤمن بها. هي حكاية الشبان الذين ينتقلون حكماً من دوامة الحقوق المسلوبة والحقوق الممنوعة والفقر والظلم والجهل الى دوامة التكفير، الذي يجد أربابه فيهم طرائد ممتازة لخوض الحروب، كل الحروب التي تفصلهم عن حلم العودة. هي حكاية الجدة الأمية التي أكلت الغربة لحم سنينها، وما قتلت فيها إيمانها الأجمل.. الطريق الى الجنة تمر حتماً بفلسطين.

المصدر: جريدة الأخبار