شهداء اليرموك انتظروا ولم يعايدهم أحد!
مصطفى الولي
المقبرة القديمة، والمقبرة الجديدة، علامتان بارزتان
في مخيم اليرموك، الذي يُعرف بعاصمة الشتات الفلسطيني. من كان يرى مواكب الزوار في
صباحات الأعياد، أو في المناسبات الوطنية الفلسطينية، وهي تفيض عن المساحات المخصصة
لمدافن الشهداء، يخال أن الأحياء والأموات يتسامرون ويضحكون ويفرحون معًا، نعم كانت
زيارات الفلسطينيين لأضرحة شهدائهم وأبنائهم تتحول إلى كرنفال، وتتوفر في فضاء المكان
عناصر الاحتفال كافة، حيث يتغلب الفلسطينيون على الجانب المأسوي من ذكرياتهم، وما افتقدوه
من أبنائهم.
في هذا العيد، لا رائحة للهال والقهوة المرة في
مقبرتَي المخيم، ولا مذاق في الفضاء لكعك العيد، بنكهته الفلسطينية المميزة، لا هرج
ولا مرج بين زائرات وزوار مقبرتي الشهداء، ولا معزوفات للأناشيد الوطنية التي تفتخر
بتضحيات الراقدين تحت التراب.
المخيم مغلق، والرجوع "العودة” إليه محرَّمة على
الناس، حتى زيارته، مجرد زيارة لسبب قاهر تحتاج إلى تصريح ممهور بقرار من "فرع فلسطين”
سيئ الذكر والصيت، وبمبلغ من المال للشبيحة ورجال المخابرات، وبتوسط لمسؤول في فصيل
"مقاوم وممانع”، أو لممثل الدائرة السياسية في "منظمة التحرير الفلسطينية”، الذي لا
يخجل عندما يسأله أبناء اليرموك النازحون إلى أحياء وبلدات دمشق، عن موعد عودتهم إلى
منازلهم، كما وعدتهم "فصائل العار” العميلة للطاغية، فيجيب: "لا قدرة لدينا على هذا
الموضوع، ولا نستطيع فعل شيء!”.
كانت ذريعة سلطة الاستبداد وأدواتها من "فلسطينيي
الممانعة”، لاستمرار حصار القطعان الفاشية والطائفية لليرموك، وجود تنظيم (داعش) فيه،
ولم يكن العدد الأكبر من أبناء اليرموك ليصدق أن وجود (داعش) في المخيم تم بعلم السلطة
وبتسهيل منها، غير أن هؤلاء ما لبثوا أن اكتشفوا الأمر المريب، عندما تم الاتفاق بين
الطرفين (داعش والسلطة) على الانسحاب بأسلحتهم، من دون تفتيش أمتعتهم، وحُمِلوا بالباصات
الخضراء المكيفة إلى بادية السويداء لينفذوا تتمة مهامهم هناك، بينما رُحّل سكان المخيم
الباقون إلى الشمال السوري، ووعدوا بالعودة بعد "تنظيف المخيم من الألغام والمتفجرات”
حرصًا على حياتهم، وزادوا على ذلك، بعد شهر من إخلاء المخيم، أنّ رفع الركام وتنظيف
الشوارع وفحص الأبنية الصالحة للسكن من سواها، سيؤخر عودة الناس إلى بيوتهم.
وبمزيج من الآمال والأوهام، أقنع البسطاء أنفسهم
بضرورة الصبر والانتظار، وأن عودتهم أكيدة لكنها ستتأخر إلى ما بعد رفع الأنقاض والركام،
وبسذاجتهم رسّخ عدد من المهندسين الفلسطينيين هذه الكذبة، من دون قصد على الأغلب، فشرعوا
بنشر فيديوهات للجرافات والمعدات التي تقوم بعمليات رفع الأنقاض وترحيلها، واكتشفوا
لاحقًا أنهم واهمون، وأن لا عودة لأبناء المخيم إلى بيوتهم، وما قاموا به من رفع للأنقاض
وفتح للشوارع والحارات، كان ضرورة لاستكمال الشبيحة وعملاء السلطة نقل سرقاتهم بالسيارات
بكل يسر وأمان.
ها هم فلسطينيو اليرموك وبقية سكانه من السوريين،
يدخلون عامهم الثاني في مناطق نزوحهم الإجبارية، بعد ترحيلهم في النصف الثاني من أيار/
مايو 2018، وقبلهم كان عشرات الآلاف قد نزحوا من المخيم، منذ هجوم سلاح جوّ "الممانعة”
في كانون الثاني/ يناير 2012، واستقروا على مقربة من المخيم في أحياء دمشق، على أمل
العودة عندما تتوقف المعارك.
توقفت المعارك، وتم تدمير المخيم، ونُقلت (داعش)
معززة مكرمة إلى مناطق أخرى، تستكمل فيها وظيفتها، وقُذف من تبقى في المخيم إلى الشمال
البعيد ومخيماته البائسة، والشيء المهمّ الوحيد الذي أنجزته سلطة المافيا في المخيم،
أنها قدمت عربون طاعة لنتنياهو، بتسليم رفات الجندي الإسرائيلي الذي سقط في حرب
1982، في لبنان.
لقد كشفت تطورات الأحداث، التي جرت في مخيم اليرموك
منذ 2011، أن ما ادعته سلطة الأسد لتبرير هجومها على اليرموك وتدميرها لمنازل سكانه،
وترحيلهم، كان ستارًا لتمرير مخطط واسع يشمل سورية كلها، فالتغيير الديموغرافي الشامل
الذي تقوده خطة ملالي طهران، وتنفذه عصابة سلطة الطاغية، يتطلب اقتلاع الفلسطينيين
من جنوب دمشق، حيث مخيم اليرموك، هو جذر المأساة التي لحقت بالفلسطينيين، ولأن الفلسطينيين
رفضوا منذ بدء الثورة السورية تنفيذ أجندة العصابة الحاكمة، واختاروا الوقوف على الحياد،
أتاهم العقاب، ليفتح الطريق للتغيير الديموغرافي الذي ينشده الطائفيون الفرس، لتحويل
سورية إلى بلد يغلب عليه الطابع المذهبي الشيعي، وسبق للملالي أن أرهبوا فلسطينيي العراق،
واجتاحوا مناطق سكناهم في بغداد، في حي "البلديات” وشردوهم بعد قتل العديد منهم وترويعهم،
بذريعة أنهم كانوا مع نظام صدام، بينما السبب الأساسيّ في تلك الجريمة أن الفلسطينيين
ليسوا من الفرس، ومذهبهم الإسلامي ليس شيعيًا.
يبدوا أن الشهداء في مقبرتي اليرموك، القديمة والجديدة،
سينتظرون طويلًا زيارات ذويهم في صباحات الأعياد وفي المناسبات الوطنية العزيزة جدًا
على قلوب الفلسطينيين، تمامًا كما تنتظر أبواب البيوت التي تمّ طرد سكانها، عودتهم
بعد حين، سوف يكون ذلك طويلًا، ولن يتحقق، طالما سلطة الطاغية وعصابته تتحكم في مقدرات
سورية، وتقوم بمجاراة المخطط الفارسي- الشيعي على الأرض السورية.
سوف يكتشف فلسطينيو اليرموك وسكانه كافة، أن ما
عقدوه من آمال على عودتهم، هو مجرد أوهام صنعتها أبواق "الممانعين المقاومين”، وسوف
تمر أعياد كثيرة يستيقظ فيها الشهداء من دون أن يلتقوا بزوارهم، لكنهم سيلحظون وجود
أعمال حفر وتنقيب يقوم بها الخبراء الروس، للعثور على جثث الجنود والجواسيس الإسرائيليين،
لتسليمها إلى "إسرائيل” وتمتين العلاقة بينها وبين بشار الأسد.
منذ البداية، كان على أبناء اليرموك فهم المعادلة
في الصراع في سورية وعليها، معادلة تقول: إن المصير واحد للسوريين وللفلسطينيين في
سورية، وهو ما عبّر عنه شباب اليرموك في التظاهرات الأولى ضد سلطة المافيا الفاشية،
عندما هتفوا:
"واحد واحد واحد… فلسطيني وسوري واحد”.