شوفينية الألم
الفلسطيني
نصري حجاج
يتبارى
الفلسطينيون، منذ أزمنة مختلفة، وكأنهم في ساحة سباق، للوصول إلى امتلاك لقب
المتألم الأكبر. ليس هم من اخترع الساحة، ولا هم من قدّم طلب الانتساب إلى هذا
النوع الشقي من السباق، بل واقعهم المرير وتعقيدات قضيتهم، وتهافت المحامل التي
حملت هذه القضية.
فلننس أعوام
النكبة الأولى التي قصمت ظهورهم جميعاً، كما كسرت وقتهم وهشمته، فأرجعته إلى
الصفر، في أحوال كثيرة، حتى بات الصفر علامة فارقة في تشكلات المجتمعات الفلسطينية
وصيرورتها. ولنتأمل أحوال الفلسطينيين منذ الستينيات، أي بعد انطلاق الحركة
الوطنية الفلسطينية المعاصرة، وإلى اليوم، حيث نشهد ذروة التلف والتفسخ والتشرذم
الذي لا يشبه في قسوته، ولا تراجيديته، أي قسوة، أو تراجيديا لشعب آخر في القرنين،
الماضي والراهن.
هشّمت النكبة
بنية المجتمع الفلسطيني الذي كان في مرحلة تطور، وخلقت منه مجتمعات متناثرة، بعضها
في فلسطين التاريخية، ولكن أشدها مدعاة للأسى مجتمعات اللاجئين في الأردن وسورية
ولبنان، وعلى أرض فلسطين في الضفة الغربية وقطاع غزة. ويأتي في قاع هذا الأسى
مجتمع اللاجئين في لبنان، لجهة الظروف المعيشية، وخصوصية المجتمع اللبناني
والقوانين المجحفة للدولة المضيفة.
كان على هذه
المجتمعات أن تدفع أثماناً باهظة، وهي تحاول أن تستجمع شظاياها من حطام النكبة،
حول فكرة وحدة الشعب الفلسطيني، الموزع خارج أرضه، وقد مثلت منظمة التحرير
الفلسطينية محملاً لفكرة وحدة الشعب الطامح إلى تحقيق حلم العودة، على الرغم من
هشاشة بنيتها والمحاولات العربية الرسمية للهيمنة عليها ولو بالعنف. وفي سياق هذا
الكفاح الشعبي الفلسطيني، تعرضت المجتمعات الفلسطينية المختلفة إلى واقع دموي،
اختلف باختلاف المراحل السياسية، واختلاف أماكن وجودهم. فمن بداية السبعينيات في
الأردن، عانى الفلسطينيون أولى المواجهات الدموية مع النظام الأردني، وأولى تجارب
التهجير والطرد من المكان المؤقت، فصار فلسطينيو الأردن في تلك المرحلة يتحمّلون
عبء الواقع الجديد، لكن انتقال منظمة التحرير الفلسطينية إلى لبنان، في أواخر عام
1971، جعل من المجتمع الفلسطيني في لبنان مركزاً لمعاناةٍ فاقت كل معاناة، سنين
طويلة، لم تنته حتى بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وتهجير المنظمة وقواتها
وتشتتها في أكثر من بلد عربي.
ينمو شعور
الفلسطينيين في لبنان بالغبن والظلم، وهم الذين دفعوا من دمهم في سبيل المشروع
الأول لوحدة الشعب الفلسطيني، فقد أحسوا دائماً أنهم تُركوا لمصيرهم الدموي وشظف
العيش، وهم الذين رعوا هذا المشروع الوطني، بلحمهم ومستقبل أبنائهم، ما طوّر لديهم
شعوراً طاغياً يمكنني أن أسميه "شوفينية الألم"، وهي حالة تدفع المنتمين
إليها إلى الإحساس بتفوقهم بالألم على
بقية أقرانهم الذين لم يخوضوا التجربة المؤلمة نفسها، على الرغم من الانتساب إلى
الشعب نفسه.
الفلسطينيون
السوريون، اليوم، وبعد أربع سنوات على الثورة السورية، وتعرضهم للقتل والتدمير
والتجويع والاعتقال، يطغى عليهم شعور التفوق بالألم على بقية الفلسطينيين، حتى على
الفلسطينيين في غزة الذين واجهوا حرب إبادة وتدمير. يلاحظ في كتابات فلسطينيين
سوريين كثيرين الشعور بالمرارة والخيبة من كل الأطراف، بمن في ذلك بقية المجتمعات
الفلسطينية التي ربما تكون قد عانت أكثر، على مدى السنين المنصرمة من عمر الحركة
الوطنية الفلسطينية، وتحديداً من منظمة التحرير الفلسطينية، هيئة تمثيلية للشعب
الفلسطيني، وتحس، أحياناً، بنزعة استعلاء الجرح التي تتضخم، أحياناً، لتصل إلى
حالة الشوفينية، أي شوفينية الألم التي تنسى، في تجلياتها القصوى، التجارب المؤلمة
التي عاشها المجتمع الفلسطيني في لبنان، أو في غزة، أو في الضفة، جنين مثلاً.
وأحياناً من غير أي تغطية إعلامية، ولا صفحات التواصل الاجتماعي.
في ظل غياب
التمثيل الموحد للشعب، القادر على توحيد قدراته وآلامه، وتفسخ الهوية الوطنية
وتآكلها، يترسخ التهشيم الشخصي والعام، ويعلو الشعور الفردي ليهبط إلى قاعٍ لا
قرار له.
المصدر: العربي
الجديد