صبرا وشاتيلا والتخلّي الكبير
بقلم: ظافر الخطيب
عندما يتحول إنساننا إلى أرقام فارغة من مضمونها الانساني
والوطني والتاريخي والاجتماعي والثقافي، حينها تتحول المجزرة الى محطة عادية لا يشعر
بها حتى إنساننا الفلسطيني المنكوب بالانفصام والانقسام. فعملية كيّ الوعي الفلسطيني
التي لم تكن «صبرا وشاتيلا» سوى محطة من محطاتها، مازالت مستمرة. فبعدها كان البارد
والآن «اليرموك» و «عين الحلوة». فلماذا وكيف ومَن يتحمّل المسؤولية؟ هذه أسئلة كبيرة،
لكنها تحتاج حتماً إلى ذوي عزم قادرين على الإجابة عليها. ومن الواضح اننا حتى الآن
لا نملك أولئك الرجال. ولا ندري أنحمد الله على هذا الابتلاء أم نلعن رجال الساعة على
خيباتهم. نستثني أولئك القابضين على جمر المقاومة، لأنهم يملأون الفراغ بالفعل المناسب.
حتى الآن لم يُعمل على صياغة الرواية الفلسطينية الحقيقية.
تمر المجازر تلو المجازر، تفعل فعلها، تقتل مَن تقتل، تهجّر مَن تهجّر، ثم تذهب الى
النسيان مع كل ما فيها من دروس وعبر. لماذا؟ ربما لأن سؤال لماذا يجرّ كيف، وكيف تجرّ
مَن، وهو ما يعني القصاص والمحاسبة.
محطة «صبرا وشاتيلا» نموذج للدراسة، وقبلها كان مخيما «النبطية»
و «تل الزعتر»، ولاحقاً عليها «البارد» و «اليرموك» الذي ما زالت النيران تتأجج فيه،
و «عين الحلوة» المكتوي على جمر التقاتل بين أمراء الزواريب. عدم الدخول في ورشة المراجعة
يعني حكماً إدامة المعاناة الفلسطينية، وهو ما لا يخدم أي أجندة وطنية على المستوى
السياسي.
تعداد أرقام ضحايا مجزرة صبرا وشاتيلا، واستعراض محطات الذبح
والقتل التي تظهر بشاعة الفاشية الصهيونية والقواتية مسألة مطلوبة، والإلحاح في التذكير
بها أمر مطلوب، والتنويع في أشكال وكيفيات المذبحة واستعراض شهادات الناجين من المجزرة
مطلوب أيضاً. مذبحة صبرا وشاتيلا تركت أثرها العميق، لكنها لم تكن فقط مجرد عمليات
تطهير عرقي، فلها مرادفاتها، السياسية والنفسية والمعنوية والمادية. فهناك مجزرة حدثت
على المستوى الديموغرافي الفلسطيني. إذ إن أمواج الهجرة الى خارج لبنان تزايدت بشكل
حادّ جداً. فما يقارب المئة الف لاجئ فلسطيني تركوا لبنان خلال مرحلة الثمانينيات،
وهو الأمر نفسه الذي ينطبق على عقدَي التسعينيات والألفية الثالثة.
يمكن رصد حالة الانكفاء عن العمل الوطني وتراجع جاذبية الانتماء
للفصائل السياسية، كواحدة من أبرز النتائج التي خلصت إليها حالة الاستهداف للمخيمات
وعدم قدرة القوى السياسية على المواجهة أو على تجنيب المخيمات من تجرّع كأس الموت والدمار.
يُضاف الى ذلك النزوح من المخيم الى المحيط اللبناني. ناهيك عن جوانب كارثية أخرى لا
تقل أهمية وخطورة عن الهجرة والقتل والتدمير، إذ إنها بمجملها تزيد من المعاناة الفلسطينية
وتؤدي بمقتضاها الى تصفية الوجود الفلسطيني، مثل ارتفاع نسبة الإدمان على المخدرات،
وعمالة الأطفال، وارتفاع نسبة الطلاق، وارتفاع سن الزواج، والعطالة عن العمل، وارتفاع
منسوب الجريمة والعنف الداخلي، وتراجع الإقبال على التعلّم...
المفردات التاريخية الفلسطينية التي تنتمي الى فترات النهوض
الوطني فقدت روحيتها. مفردات المقاومة والنضال، العودة والتحرير، الصمود والمواجهة
لا يمكن استعادتها وتأثيرها بمجرد خطابات رنانة أو كلام «من فوق». إن أي تعبئة حول
أهداف أو برامج نضالية، يجب ان تمر حكماً بتقديم رواية فلسطينية لحقيقة كل ما جرى للمخيمات،
تحديداً لناحية الأدوار والمسؤوليات. بذلك تكون «صبرا وشاتيلا» أكثر من مجرد حدث في
مثل هذا اليوم. وبذلك يمكن إنقاذ ما تبقى من المخيمات وعلى رأسها مخيم «عين الحلوة»
بعدما أحاطت به الغيوم السوداء من كل حدبٍ وصوب.
المصدر: السفير