صخرة القدس تخوض
معركة تاريخية حاسمة مع الاحتلال
بقلم: محمود حبلي
حتى يستفيق العالم
العربي والإسلامي من انشغالاته البالغة الأهمية، فإن قلة قليلة من هذا العالم تعيش
في القدس وأراضي الـ 48 يشكّلون وحدهم حزام الأمان للمقدسات فيما بات يُعرف بالسكان
الفاعلين والأفراد المؤثرين حيث لا يُوجد سلطة ولا فصائل وأحزاب فلسطينية في القدس،
وهؤلاء بمفردهم يجسدون هناك توازن الرعب مع الاحتلال ومؤسساته ومستوطنيه.
ولمن لا يعرف طبيعة
الحرب الدائرة في القدس، فإن إسرائيل تخوض اليوم بحكومتها المتطرفة وغير المتماسكة
إحدى أكبر معاركها التاريخية على الإطلاق بتغيير الواقع القائم والوضع القانوني لمدينة
القدس ومسجدها الأقصى، إنها تريد أن تحسم حتى نهاية عام 2016 ما عجزت عن فعله خلال
أعوام سيطرتها على شرقي القدس منذ عام 1976.
إنّ أوّل نذر هذه
المعركة هي تصنيف سلطات الاحتلال للمرابطين والمرابطات في الأقصى بأنهم مجموعات إرهابية،
والمصادقة الحكومية والقضائية الإسرائيلية على استهداف المتظاهرين - حتى ولو كانوا
أطفالاً- بالرصاص الحي، وإقرار الكنيست الإسرائيلي قانونًا جديدًا ينص "على فرض
عقوبة السجن لمدة تصل إلى 20 عامًا، على من يقومون بإلقاء الحجارة وفي نيتهم إصابة
ركاب السيارات، و10 أعوام على من ليس لديهم نية لذلك".
وبمثل هذه الإجراءات
فإن الصورة التي ترسمها إسرائيل للقدس ولقلبها المسجد الأقصى باتت واضحة، إنّها تريد
تغيير وجه القدس إلى "أورشاليم العبرية" من دون صخبٍ ولا ضجيج، وفي سبيل
ذلك فإنها تسعى لتجريد الفلسطينيين من حقهم في الدفاع عن الأقصى حتى ولو كان شكل هذا
الدفاع حجرًا في وجه عربة مصفّحة ورتلاً عسكريًا.
ولحسن حظ دولة
الاحتلال هذه الأيام فإن التحولات الكبرى في المنطقة تضع إسرائيل في خانة الاستهداف
وتعطيها صبغة المظلومية، ولذلك فإنها حرَدَت وشرعت في ابتزاز الجهات الدولية والإقليمية
للحصول على مقابل في أعقاب الاتفاق النووي التي فشلت في إسقاطه، وهذا يعني أن ضجيج
عملية "تغيير الوضع القائم" في القدس لن تصل إلى آذان المجتمع الدولي فضلاً
عن أن تحرك مشاعرهم، وهو ما ترجمه الرئيس الأمريكي باراك أوباما حينما ذكر قائمة طويلة
من الأزمات والصراعات الإقليمية، لكنه أهمل حتى الإشارة إلى القضية الفلسطينية في خطابه
أمام الأمم المتحدة، ضمن فاعليات القمة العالمية للتنمية المستدامة في 28 أيلول/سبتمبر2015.
ومع تمادي الحصار
الخانق على قطاع غزة الذي يلقي بآثاره على آفاق المقاومة الفلسطينية، وفي ظل تواصل
عملية التنسيق الأمني بين السلطة والاحتلال في الضفة الغربية، فإنه لم يعد هناك من
خيار آخر أمام هؤلاء القلة الموجدين في الأرض المقدّسة سوى النفير العام، هم وحدهم
الآن شبابًا ونساءً وأطفالاً قادرون على كسر البراغماتية المقيتة وتحريك القضية الفلسطينية
إلى الأمام، هم وحدهم يلمسون دون أي توهّم أن دولة الاحتلال بدأت تغيّر بشكل فعليّ
وجه القدس ليصبح "أورشليم العبرية"، هم أوّل من يعلم بشكل قاطع عدم جدوى
عملية التفاوض السلمية، ولذلك فإنهم يستميتون في الدفاع عن الأقصى ويواجهون بصدورهم
العارية رصاص العدو الإسرائيلي وهراواته، ويبذلون كل ما في وسعهم للانتشار في محيط
الأقصى والدفاع عنه من جهة وإشغال الإسرائيليين في باقي المناطق من جهة أخرى.
وإذا كان لا بد
من انحناءة تبجيل للواقفين عزّلاً في وجه سلطات الاحتلال، فإنه يفترض بالأمة العربية
والإسلامية التي ألِفَتْ الاعتزاز بالوشاح الفلسطيني، أن تضيف إلى صدارة ثقافتها وتراثها
"الحجر المقدسيّ" كرمز للمقاومة بما يحمله من مضامين الانتفاض الشعبي على
الاحتلال، والصمود الإنساني في مواجهة الطغيان والاستكبار، وقدسية الأرض المباركة التي
قدسها الله في كتابه الكريم. وليس المراد من ذلك تقديس الحجر ولكن المطلوب تكريم حامليه
وحشد الأمة بشبابها وأطفالها ونسائها خلف هؤلاء المقدسيين الصامدين، بترميزهم في الحملات
الإعلامية، وتقديمهم في صدارة الاهتمام الشعبي، والالتفاف حولهم ومباركة حراكهم وجهادهم
وتضحياتهم، فليس من قبيل المصادفة أن يكون أول الانتفاضة رمية الحجر، وأول المواجهة
بين الحق والباطل في معركة بدرٍ رمية النبي صلى الله عليه وسلم قبضة الحصى، وليس أقل
من الاستبشار بالنصر احتفالاً بالآية الكريمة "وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ
اللَّهَ رَمَى".