القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الأحد 24 تشرين الثاني 2024

صفقــة شاليط: بــدايــة زعــامــة

صفقــة شاليط: بــدايــة زعــامــة

بقلم: يوسي فيرتر

في قرارة نفسه يفكر بنيامين نتنياهو بعملية الاختطاف المقبلة. إنه يعرف أنها مقبلة. فمحاولات وإنذارات الاختطاف باتت عملاً شبه يومي، الهم اليومي لرؤساء حكومات "إسرائيل” على مر الأجيال. وهذا كان في السنوات الخمس الأخيرة، وما سيبقى بعد أن يعود جلعاد شاليط. وعندما يحدث ذلك، سيضطر نتنياهو ليس فقط لمواجهة الثمن، وإنما كذلك نوع رد الفعل.

وتنتصب أمام ناظريه سابقتان: اختطاف شاليط في حزيران 2006، حينما اكتفت "إسرائيل” بردّ موضعي مبالغ به، واختطاف إيهود غولدفيسر وإلداد ريغف في تموز العام نفسه، والذي خرجت إثره "إسرائيل” لحرب لبنان الثانية. ولا ريب عند نتنياهو في النموذج الذي سيختار: ليس نموذج حزيران. بعد ذلك تأتي مسألة الثمن. لقد تعهد عدد من الوزراء، ربما لطمأنة ضمائرهم، بأن التبادل في المرة المقبلة سيكون واحداً مقابل واحد. أما نتنياهو، فكان حذراً في نقاشاته الداخلية من إطلاق عبارات كهذه. إنه غير مستعد للتعهد. لقد تعلم على جلده أن الحياة أشد تعقيداً مما تبدو عند كتابة الكتب عن مكافحة الإرهاب. وفعلا، ليس ثمة منصب يبرّد، يهز، وينوّر أكثر من رئاسة حكومة إسرائيل.

ومن تحدث في الأيام الأخيرة مع نتنياهو، وجده بالغ الهدوء، متصالحاً مع نفسه. فهذا أصعب قرار اتخذه منذ عودته للمنصب في نيسان 2009. قبل أربع ساعات من جلسة الحكومة لم يكن مقتنعاً أن لديه أغلبية. لاحقاً بدت القناعة مشبوهة نظراً للأغلبية في التصويت (26 ضد ثلاثة)، لكن هذا كان مزاج ديوان الحكومة يوم الثلاثاء. ظاهرياً، كان يفترض أن يصوت نصف وزراء الليكود ضد الصفقة، وكذلك كل وزراء "إسرائيل” بيتنا وواحد من البيت اليهودي، وهكذا لدينا تعادل.

ووزير الدفاع، إيهود باراك، الذي أيد الصفقة منذ توليه الوزارة، قال لنتنياهو إنه لا يوجد فيلم كهذا. فلحظة يقرر رئيس الحكومة ويسير بكامل قوته وصلاحيته الأخلاقية، فإنه يفلح في تمرير حتى القرارات التي يصعب على اليمين هضمها. لقد تحدث باراك عن جلعاد شاليط، لكنه كان يقصد أيضاً قرارات مستقبلية. استئناف المفاوضات مع الفلسطينيين مثلاً.

لقد شهد باراك هذا الفيلم عشية انتهاء ولاية حكومة أولمرت. وعندما يقارن بين رئيسي حكومة، فلا شك عنده في مَن أظهر زعامة وفي مَن جبن، مَن تصرّف بشجاعة ومسؤولية ومن بحث عن ألف ذريعة للتهرب من القرار. في أحاديثه الخاصة يشيد باراك بنتنياهو بطريقة ثناء الجنرال على جندي. ويقول باراك إن نتنياهو أظهر زعامة. ومن دون الخطأ في السيكولوجيا، وجود باراك في الجوار ساعد نتنياهو في اتخاذ القرار.

إن كلمة «زعامة» تتكرر في بلاغات ديوان رئاسة الحكومة. وهذه هي الكلمة المركزية في صفحة الرسائل. ويبدو أنها فائقة الأهمية لنتنياهو. عند انتهاء جلسة الحكومة الليلية التي أقرت فيها الصفقة، توجه عدد من مقربي رئيس الحكومة لوزراء معينين وطلبوا منهم التركيز على عنصر الزعامة في مقابلاتهم الصحافية. منذ ذلك الحين لا يخلو بلاغ للديوان من كلمة الزعامة.

أمس، في بلاغ الديوان عن مكالمة نتنياهو مع هيلاري كلينتون، أشير إلى أن نتنياهو قال لوزيرة الخارجية الأميركية إن «هذه لحظات تختبر فيها الزعامة». وقبل ذلك بيوم نشر الديوان بلاغاً شكر فيه نتنياهو الجمهور الذي بارك القرار، وأشار إلى أن «الزعامة تختبر في هذه اللحظات». قبل ساعات من ذلك أبلغ الصحافيون عن مكالمة نتنياهو والرئيس الفرنسي نيكولاي ساركوزي: «رئيس الحكومة قال للرئيس إن القرار كان صعباً عليه من الناحية الشخصية، لكن الزعامة تختبر في هذه اللحظات الصعبة».

وهكذا، بلاغ وراء بلاغ، وجميعها تطفح من شدة الزعامة. على الديوان أن يهدأ قليلاً. الزعامة تكتسب بالأفعال، ليس بالبلاغات. وعندما تتحقق، تكون فعلاً. الجميع يراها. والزعيم لا يجدر به أن يعلن نفسه زعيماً، مثلما أن عارضة الأزياء بار رفائيلي ليست بحاجة أن تقول إنها جميلة.

أسد محبوس

في أحاديثه في الأيام الأخيرة مع الوزراء وأعضاء الكنيست من حزبه، وفي مداولاته في ساعات ما قبل جلسة الحكومة، لم ينتظر نتنياهو أن يذكره أحد بصفقة جبريل العام 1985، والتي أفرج فيها عن 1150 معتقلاً، معظمهم من كبار المخربين، مقابل ثلاثة جنود أحياء. إنه يذكر صفقة جبريل بمبادرته، كمن يتقي شراً.

كان نتنياهو حينها سفيراً في الأمم المتحدة وفكّر في الاستقالة جراء معارضته الشديدة لها. وكتب بعد ذلك عنها في كتابه «مكان تحت الشمس» الصادر عام 1995: «ربما أنه تمّ هنا إنقاذ بضع أرواح في إسرائيل، ولكن من الواضح أن الثمن كان أرواح الكثيرين التي أزهقت بسبب هذا القرار». ويقتبس نتنياهو في كتابه عن رسالة بعثها لاسحق شامير، وكان رئيساً لليكود ووزيراً للخارجية في حكومة الوحدة برئاسة شمعون بيريز: «كنت مقتنعاً أن الإفراج عن حوالى ألف من المخربين سيدخلون إلى مناطق يهودا والسامرة، سيفضي بالضرورة إلى تصعيد مخاطر العنف، لأن هؤلاء المخربين سيستقبلون كالأبطال، وكقدوة يحتذي بها الشباب الفلسطيني».

وحالياً يقول نتنياهو لمحادثيه إن القصة مختلفة. مخربون قلة، مقارنة بما كان حينها، سيسمح لهم بالعودة لمناطق الضفة الغربية. هذا فارق عظيم. ومن سيعود سيخضع لرقابة وثيقة من الاستخبارات الإسرائيلية. وطوال عامين أصرّ نتنياهو على معيارين: الأسماء والطرد. ولحظة وافقت حماس على إبداء ليونة في هذين المعيارين، أن تبقي في السجن الأسماء الكبيرة وأن توافق على إبعاد كبار القتلة ومنع دخول كثيرين إلى الضفة، وافق نتنياهو على الصفقة. وفي ذلك وافق على الإفراج عن عرب إسرائيليين، ستة. وهو يتعامل باستخفاف مع من يزعمون أنه كان بالوسع تحقيق صفقة أفضل قبل عامين. ويقول نتنياهو إن من يقول ذلك غير مطلع على التفاصيل.

قلبه مشطور. فصفقة كهذه تناقض كل فكره السياسي، الشعبي، الأيديولوجي. لكنه لا يقدر على التصرف مثل وزرائه الثلاثة الشجعان منتصبي القامة، أفيغدور ليبرمان، عوزي لانداو وموشيه يعلون وترك شاليط يواجه مصيره. أن يموت هناك، يُجنّ هناك، وربما الاختفاء يوماً في إيران، أو المرور بتعذيب يُعرَض ذات يوم في اليوتيوب. إنه يخشى الردّ بالسلب هذه المرة، ويتحول شاليط إلى أراد رقم اثنين.

في الأيام الأخيرة تذكر لقاءاته مع باتيا أراد، والدة الطيار المختفي المرحومة. رآها في معاناته. وتألم لمعاناة أفيفا ونوعم شاليط، وخصوصاً لمعاناة الجد تسفي شاليط الرجل الذي يصفه «بالفريد من نوعه». وهو يعترف أن الأجواء العامة، والإحساس الجمعي، لا يسمح له بإجراء نقاش عقلاني، حول مصير شاليط. هناك حاجة لإعادته لأهله، وكفى.

وحانت لحظة الحقيقة لدى نتنياهو يوم الأحد صباحاً. صار مطلوباً منه قرار نهائي لمصير الصفقة. لم يكن لديه ترف التفرغ فقط لتلك القضية يومها. إذ انشغل أيضا بإقرار تقرير ترختنبرغ في الحكومة، بعد فشله الأسبوع الفائت. كما أنه حاول حل أزمة الأطباء, وبين هذا وذاك اهتم بتقرير الاحتكارات الذي وضع على طاولته. وقد تحرك كـ«أسد في قفص» في ذلك اليوم، حسب تعبيره. وليلا استدعى هيئة الثمانية لجلسة سرية حاسمة.

إن طلاب العلوم السياسية الذين سيتعلّمون في المستقبل تاريخ حكومة نتنياهو الثانية، سيحاولون بالتأكيد فك شيفرة المفارقة التالية: نتنياهو يخفق في القضايا الصغيرة، العديمة الأهمية شكلياً، والعديمة القيمة نسبياً. فطوال يوم كامل حاول في الحكومة إقرار تقرير ترختنبرغ للتغيير الاجتماعي، وسقط على وجهه. وسائل الإعلام ندّدت به، وصفته برئيس الحكومة الضعيف الذي يستخفّ به شركاؤه، ويرأس ديواناً لا يعمل، وربما أنه عشية انتخابات. بعد تسعة أيام من ذلك نجح في الحكومة اليمينية الصريحة، وفي نصف الوقت، إقرار التقرير، وإقرار الإفراج عن 1027 أسيراً، بينهم قتلة ومخربون، مقابل جندي واحد. هذا قرار ليس هناك أصعب منه، لكنه مرّ بيسر. وفيما كانت الحكومة مجتمعة طفحت الهواتف المحمولة لوزراء أحزاب اليمين بمئات من رسائل التنديد، التهديد، الإقناع والرجاء من رجال اليمين المعارضين للصفقة. والوزراء الذين خرجوا من وقت لآخر من غرفة الاجتماعات، ذهلوا من هجمة الرسائل، لكنهم لم يخضعوا، بأغلبهم، لها.

ونمط العمل الغريب هذا يميز نتنياهو طوال ولايته. في الأمور الكبيرة ينجح، ليس سيراً وإنما بعد بذل جهد، فيما ينهار في الأمور الصغيرة. لقد مرر قراراً بتجميد البناء في المستوطنات في الضفة الغربية (تشرين الثاني 2009) لم يسبق لرئيس حكومة قبله أن اتخذه. كما أن خطاب بار إيلان الذي أعلن فيه اعترافه بدولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، وهو اعتراف ناقض كلياً موقفه المعلن طوال عشرات السنين، وناقض موقف الليكود، ولم يهتم بإقراره في الحكومة. ولكن منذ الخطاب صار هذا موقف "إسرائيل” ولا بديل عنه.

ماذا يثبت ذلك؟ كما قيل مراراً، نتنياهو أحد رؤساء الحكومات الأقوى في إسرائيل. وعندما يريد فإنه مؤهل لإظهار زعامة (زمن طويل لم نسمع هذه الكلمة)، شجاعة وحسم، كما كان في السييرت، إلى جانب إيهود باراك. ورغم سمعته كمفجّر نزاعات، إلا أنه معتدل بالمعنى الأمني. وهو لا يهرع للحروب والمغامرات العسكرية. من ناحية سياسية هو مؤهل اليوم أيضاً، بعد عامين ونصف من إنشاء حكومته وبعد تضييع وقت ثمين، من قيادة تسوية مع الفلسطينيين. إن لم تكن تسوية حقيقية فعلى الأقل الذهاب بعيداً نحو الطرف الثاني، لكي يكسب ثانية تعاطف العالم ويكسر أسوار الحصار والعزلة التي ترتفع حول إسرائيل. كل ما عليه فعله هو أن يريد ذلك والأهم أن يؤمن وأن لا يخاف أبداً.

إن خطوة سياسية حقيقية وشجاعة من جانبه ربما ستدفع ليبرمان للهرب منه، لكنه بتصرف صحيح، ومع وسيط جدي، يمكن لنتنياهو أن يضمّ كديما في العامين المقبلين الباقيين من ولاية الحكومة ويحاول تحقيق تسوية. وتقول ليفني، حتى هذه الأيام التي تحوم فيها رائحة الانتخابات، إنها إذا اقتنعت أن نتنياهو جاد فإنها ستقف إلى يمينه، من دون حسابات سياسية. فالانضمام إلى حكومة بعد منتصف ولايتها أمر إشكالي جداً لحزب معارضة رئيس، لكن ليفني في ضائقة. عامين كوزيرة خارجية تدير المفاوضات السياسية هي وصفة غير سيئة لترميم الوضع. بديهي أن الأمر يرتبط بنتنياهو وليس بليفني.

انفصام جماعي

لا ينبغي الخطأ: عندما تغيب ضوضاء الفرح، فرح شاليط، سنعود إلى جدول أعمالنا المعتاد الذي خبرناه حتى يوم الثلاثاء الأخير: نزاعات عمل، جهاز صحي ينهار، تهديدات بالإضراب واستعدادات لتظاهرة هائلة. الاحتجاج الاجتماعي لم ينته. بعد أن تنهي الطبقة الوسطى احتفالها مع عائلة شاليط، ستعود لحسابها البنكي، إلى ضائقتها اليومية، للتصارع السيزيفي مع غلاء المعيشة.

في الأسبوع المقبل سيصل نتنياهو ذروة شعبيته. بعد أسبوع أو اثنين سيتبدد الغبار. وعندما تعود الكنيست من عطلتها الصيفية، لن يعود شاليط على رأس عناوين الصحف. ليس واضحاً ما سيكون عليه حال الجهاز الصحي في إسرائيل. نتنياهو اهتمّ بموضوع الأطباء في فترة الأعياد. في أحاديث خاصة قدر أن بالوسع حل الأزمة من دون الإخلال بالاتفاق المبرم. بين الأسطر يبدو أن نتنياهو يرتاب في أن دوافع سياسية وغريبة تقف خلف رفض الأطباء وأن هذه تغذي الاحتجاج الاجتماعي. وهو يميز بين مندوبي الأطباء والأطباء أنفسهم. في كل حال من الواضح أن الأزمة تحتاج إلى حل سريع. فهي أيضاً تتعلق بأرواح البشر.

ربما بعد أن تغدو الأزمة الطبية حالة فصام عامة، كالتي رافقت جلعاد شاليط، ستجد حلها. في السنوات الخمس الأخيرة لم توجد مدرسة، ابتدائية أو ثانوية، لم يوجد كنيس، ولا حدث عام رسمي أو حزبي، ولا جلسة كنيست احتفالية، ولا وحدة عسكرية من مستوى الفصيل حتى الفرقة، إلا وأثير فيها موضوع شاليط مرة تلو مرة. وإذا كان نتنياهو قد أظهر زعامة (يعدون بأنها ستكون الأخيرة) في قضية شاليط، فليس هناك ما يدعوه لعدم التصرف هكذا في أزمة المستشفيات. هذه مشكلة صغيرة بالنسبة له. إنه على الموجة. يجدر به استغلال لحظات المجد هذه لتنظيف طاولة الجهاز الصحي.

المصدر: جريدة السفير نقلاً عن هآرتس