صفقة تبادل شاليط مع حماس تظهر مدى ليونة "إسرائيل” تحت ضغط القوة
بقلم: حلمي موسى
كل صفقات تبادل الأسرى التي أبرمتها "إسرائيل” طوال تاريخها مع منظمات المقاومة الفلسطينية واللبنانية كانت مذلة لها. وقد اضطرت لتنفيذها، لأنها لم تكن تملك سبيلاً آخر ولأنها، وبصرف النظر عن حجمها، كانت تتمّ مع جهات لا تعترف بها وترفض وجودها ولا حوار بينها إلا عبر فوهة البندقية. وتختلف هذه الصفقات عن تلك التي أدارتها "إسرائيل” مع الحكومات العربية، سواء إثر حروب، أو ضمن صفقات استخبارية.
غير أن صفقة تبادل الأسرى مع حركة حماس هي الأشد إذلالاً لإسرائيل لاعتبارات كثيرة بعضها فريد من نوعه وبعضها الآخر يتشارك في سماته مع صفقات أخرى. والمسألة لا تتعلق فقط بعدد المفرج عنهم من الفلسطينيين والعرب ولا بنوعيتهم ومقدار ما تعتبرهم "إسرائيل” خطراً عليها. فصفقة التبادل التي نفذتها الجبهة الشعبية - القيادة العامة في العام 1985 كانت مدرسة تاريخية في التفاوض. كما أن صفقة التبادل الأخيرة بين حزب الله وإسرائيل والتي تمّ فيها الإفراج عن المناضل سمير القنطار وجثث الجنود الإسرائيليين كانت مدرسة كاملة في السرية والغموض. ولكن ظروف تلك الصفقات تختلف جوهرياً عن ظروف صفقة شاليط. فالمفاوضات كانت تجري خارج فلسطين والأسيران الإسرائيليان كانوا في العالم الواسع خارج فلسطين.
إن أول معنى مهم لصفقة التبادل الجديدة هو أنها تجري على أرض فلسطين من ألفها إلى يائها. فالجندي الإسرائيلي شاليط أسر في عملية «الوهم المتبدد» التي كانت تعبيراً عن مقدار العزم في محاولة الاقتراب من العدو. إذ تطلب الأمر من المقاومين حفر نفق بطول مئات الأمتار إلى ما خلف موقع إسرائيلي لمباغتته وخوض معركة معه، ثم أسر أحد جنوده والعودة به من فوق الأرض إلى أراضي قطاع غزة.
والمعنى الثاني المهم هو أن العملية جرت في قطاع غزة المحاصر والمراقب طوال الليل والنهار وعلى مدار الساعة بأحدث الأجهزة الألكترونية والكاميرات والمجسات وبجيوش من العيون والخفر. ومن المهم هنا الإشارة إلى أن قدرة المقاومة في غزة، ممثلة بالذراع العسكري لحركة حماس، على الاحتفاظ بشاليط طوال هذه السنوات الخمس وفّر الدليل الحي على أن الاستخبارات الإسرائيلية ليست كلية القدرة وأنها يمكن أن تبقى عاجزة في أكثر من موضع وأكثر من مجال.
إذ وبحسب رئيس الأركان الإسرائيلي السابق الجنرال غابي أشكنازي، كانت "إسرائيل” لا تعلم شيئاً عن مكان احتجاز شاليط حتى موعد مغادرته منصبه مطلع العام الجاري. كما أن وزير الدفاع الأسبق اسحق مردخاي أشار إلى حجم الغرابة في جهل "إسرائيل” ما يحدث في مكان لا يبعد عن حدودها كيلومترين فقط في حين توحي بأنها تعلم كل ما يجري في العالم. والأدهى أن "إسرائيل” شنت حرباً على قطاع غزة، في ظل صمت إقليمي ودولي قاتل، ولم تفلح في توفير الضواغط التي تسمح لها بتسريع إعادة شاليط أو تخفيف الاشتراطات التي يعرضها المقاومون للإفراج عنه.
وبعد ذلك تأتي مسائل إسرائيلية بحتة. فالحكومة الإسرائيلية الحالية هي الحكومة الأشدّ يمينية في تاريخ "إسرائيل” وهي تحوي عدداً من غلاة المتطرفين وفي مقدمتهم رئيسها بنيامين نتنياهو الذي سبق له أن أصدر كتباً حول مكافحة الإرهاب. ورغم أن في هذه الحكومة عدداً من المتطرفين من الليكود مثل يوفال شتاينتس وسيلفان شالوم وبني بيغن وإسرائيل كاتس إلا أن أحداً منهم لم يعترض على الصفقة. فقط الطامحون بزعامة الليكود مثل الجنرال موشي يعلون وبزعامة اليسمين مثل أفيغدور ليبرمان هم من اعترضوا بالأصالة عن أنفسهم أو نيابة عن آخرين.
ومن المهم هنا ملاحظة أن نجاح بنيامين نتنياهو في التغلب على نفسه ومقاومة أفكاره ومواقفه عكست نفسها على أقرانه من المتطرفين الذين أدركوا أن الوقائع عنيدة وأن لا مفر لإسرائيل من الإجابة على السؤال: هل تريد استعادة شاليط أم لا؟ وطبيعي أن استعادة شاليط تعني دفع الثمن. وقد حاولت حكومة نتنياهو تقليصه سواء بممارسة ضغوط وتنفيذ اعتقالات وحصار غزة وشنّ حرب عليها أو بسواها من الضواغط الخفية. وعندما لم تجد كل هذه الأفعال شيئاً كان بديهياً أن توافق "إسرائيل” على الصفقة كما أعلنت وابتلاع الكثير من المواقف التي كانت تعلنها.
وهكذا اضطرت "إسرائيل” للبحث في أمر المعتقلين الفلسطينيين من مناطق 48 ومن القدس وكذلك تخطي ما كانت تعتبره خطاً أحمر وهو الإفراج عن «مخربين لُطخت أياديهم بالدماء». صحيح أن حماس لم تحقق في الصفقة كل ما كانت تريد تحقيقه ولكن هذا لا يقلل البتة من معاني النتيجة الحالية. وكثيرون في "إسرائيل” يفهمون اليوم بوضوح أن اضطرار حكومة نتنياهو لقبول الصفقة يثبت أنها لا تفهم إلا لغة القوة. ولكن سواهم سيفهم أيضاً أن الاضطرار يدفع قادة "إسرائيل” حتى إلى محاولة تجميل فعل كانوا يرددون صبح مساء كم أنه قبيح.
لم يعبر أحد في "إسرائيل” عن حقيقة الموقف أكثر من رئيس الشاباك يورام كوهين في استعراضه أمام المراسلين بعد إقرار الحكومة الإسرائيلية الصفقة حين قال إن الشاباك أيّد الصفقة لكونه لم يكن أي سبيل آخر لتحرير شاليط في حملة عسكرية. واعترف بأنه «لم تكن لنا إمكانية او طريقة عمل افضل لتحرير شاليط ولهذا أيّدنا الصفقة. هذه ليست صفقة جيدة، ولكن من جهة أخرى اذا كنا نريد أن نعيده الى الديار فإن هذا هو الطريق الوحيد. انتظار اضافي ما كان سيحقق بالضرورة صفقة أفضل». لقد كانت الصفقة الطريق الوحيد، كما قال.