القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الثلاثاء 26 تشرين الثاني 2024

طفل ينتصر على وحشية "الاحتلال الإسرائيلي"

طفل ينتصر على وحشية "الاحتلال الإسرائيلي"

بقلم: حسام شاكر

نادرة هي المشاهد التي بوسعها التعبير عن واقع معقد أو قضية كبرى، ومنها ذلك المقطع الذي تسرّب مؤخراً. يعرض المقطع جانباً من التحقيق المروِّع مع طفل فلسطيني، حاول خلاله حاملو رتب في أجهزة الاحتلال الإسرائيلي إخضاع ابن السنوات الثلاثة عشرة وتحطيم إرادته وسحق كرامته.

في المقطع الذي يخطف الأنفاس يظهر الشعب الفلسطيني، ممثلاً هذه المرة بطفل من القدس يثير الإعجاب بصلابته. يتماسك الطفل أحمد مناصرة ولا ينكسر، مهما فاقم الضباط الإسرائيليون الضغوط المعنوية والفيزيائية عليه. شوهد الطفل المصاب وهو يصمد أمام وحوش بشرية تأكل خبزها اليومي من بث الرعب المنهجي على هذا النحو.

للطفل مناصرة قصة، فقد أحاطت به جمهرة الإسرائيليين وتركوه مدة طويلة ينزف بعد إصابته. أخذوا يكيلون له الشتائم وهو مضرج بدمه على قارعة الطريق بعد أن دهسته سيارة إسرائيلية، وأطلق إسرائيليون في سن أبيه صيحات فاشية وشتائم نابية نحوه وطالبوه بشكل متكرر بأن يموت. خرج المشهد المصوّر إلى العالم فجاء صادماً بحق، لكن من بوسعه أن يتوقع من نظام احتلال مزمن ما هو أفضل؟ تم اعتقال مناصرة وهو مصاب، مع اتهامه بمحاولة طعن، أما ابن عمه حسن، ذو الستة عشرة سنة، فأعدمته أصابع رشيقة على الزناد في الميدان مباشرة. وقع بعد ذلك تسريب مشهد آخر لأحمد مناصرة من المستشفى، فشوهد الطفل المتروك وحيداً وهو مقيد بالأصفاد. ثم جاء المقطع الجديد عن التحقيق مع هذا الطفل الجريح والمعتقل ليكشف عن الحالة الإسرائيلية الراهنة بدون مؤثرات دعائية أو مساحيق تجميل.

إنها مشاهد توجز الواقع، فالمؤسسات والأجهزة تواصل مطاردة الأطفال بلا هوادة مع سنّ القوانين والإجراءات اللازمة لذلك، ففي الكنيست مثلاً ينشغلون بصياغة قوانين متلاحقة تبعث على الذهول. يحدث هذا في الدولة التي يطلق جمهورها المتشنج هتافات "الموت للعرب" ويطالب بتشديد القسوة على الفلسطينيين بعد شهور من انتخاب حكومة أكثر تطرفاً من سابقاتها. أما القوات المسلحة فلا تتردد في تنفيذ الإعدامات الميدانية الفورية بإطلاق النيران على من يتصرفون بطريقة غير مألوفة، ولو كانوا أطفالاً، شرط أن تكون ملامحهم عربية.

تقشعر الأبدان مما يكشفه المقطع الصادم عبر دقائق معدودة من القهر المنهجي المسلّط على طفل في واحدة من غرف الترويع الإسرائيلية التي لا تُحصَى في أرجاء فلسطين، فكيف سيبدو فيلم الرعب النفسي المطوّل الذي سنحصل عليه في هذه الغرفة فقط على مدار يوم كامل؟ قد نجد الإجابة لدى الفلسطينيين الذين شاهدوا "عرضه الأول" بأم أعينهم في الغرف ذاتها، ومن بينهم مئات الأطفال الذين اعتقلهم جيش الاحتلال خلال الشهر الأخير وتم إخضاعهم لاستجوابات قاسية.

يتيح المقطع الرهيب فرصة نادرة لمعاينة نظام الاحتلال الإسرائيلي من داخله. فكم يبدو بائساً وهو يصارع منطق التاريخ فيواصل اضطهاد الشعب الفلسطيني والضغط على العائلات والأطفال وابتزازهم لاستنطاقهم عن سلوك أقرانهم مثلاً. لا يجرؤ نظام الاحتلال على توجيه أسئلة جوهرية إلى الأطفال، من قبيل: ما الذي دفعكم إلى الخروج في مظاهرة أو حمل الحجر أو التفكير باستعمال سكين؟ فالسؤال عن الدوافع يساوي السؤال عن مصير الاحتلال ذاته، لأنّ معالجة البواعث لا تكون إلا بإنهاء الاحتلال.

ما يريده نظام الاحتلال الإسرائيلي في الأساس هو بث الخوف في صفوف الشعب الفلسطيني وترهيب الجيل الجديد بهذه الأساليب المركزة التي تراهن على تحطيم الإنسان. وبهذا لا جديد في مضمون المقطع الذي جرّبه الفلسطينيون عملياً، وإنما في التسريب المصوّر غير المسبوق الذي يتيح للعالم أن يرى أيضاً.

والجديد في الموقف أيضاً أنّ القساة الذين يظهرون في المقاطع أصبحوا المتحدثين الحقيقيين باسم الحكومة الإسرائيلية، بمؤسساتها وجيشها واستخباراتها وشرطتها. فقد تحدثوا إلى العالم في زمن المقاطع والشبكات بلغة واقعية لا تحتمل المراوغات التي اعتاد عليها الناطقون الرسميون في الحكومة والخارجية والجيش والشرطة.

أما الطفل أحمد مناصرة فيحق له أن يتحدث باسم فلسطين، فأي شيء سيقوله وبأي لغة كانت، سيظل أفصح بمراحل مما يأتي به رئيس متردد، أنهكته المتاهة الكبرى المسماة "عملية السلام" وخذلته الحكومات الإسرائيلية وأسياد البيت الأبيض وأولئك اللطفاء الذين تعاقبوا على مواقع السياسات الخارجية في أوروبا.

يحق لمناصرة أن يعتلي منصة الأمم المتحدة ليقصّ للعالم حكاية الطفل الذي تم دهسه وإصابته وتعنيفه وتقييده وتسليط الأذى عليه، فهو يمثل جيلاً فلسطينياً يحلم بالحرية ويعجز الاحتلال بكل قسوته عن إخضاعه أو نزع بريق الحرية من عينيه. قد يبدأ خطابه يومها بالقول: "أنا أحمد مناصرة، عندما كنت طفلاً كانت بلادي محتلة ..". سيهب العالم من مقاعده ليصفق له، ليواري خجله من سنوات الصمت على هذا الاحتلال.

(*) ترجمة عن «ميدل إيست مونيتور»