عام على
انطلاقة المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج
* محمد
الأنصاري
لعل
"سراً" أوقعه الله في قلوبِ شعبنا الأبيّ، وعجزَ عن فهمهِ أو خلعهِ كل
منْ حاول كسر هذا الشعب وسلب أرضه على مدى التاريخ، سراً ينتقل من جيلٍ إلى جيل
فيصبح أكثر ضراوةً وقوةً وعزيمة، سراً يُبقيه حراً مهما عظمت الخطوب وتكالبت عليه
الأمم، ومهما تمزقت دواليه، فالعرق دسّاس، وعرق هذا الشعب نبعه أرض الرسالات
وعزيمة الأنبياء.
وبرغم هذا
فنحن نفتقد منذ سنواتٍ لقيادةٍ فلسطينيةٍ حرة منتخبة ديمقراطياً من فلسطينيي
الداخل والخارج، تُمثل شعبها بروحِ التحرر والنضال، والذي عاش عقداً من الزمان
يخوض ثورةً أبيةً قدّم فيها آلاف الشهداء، واستمر في مقاومة المحتل برغم النكباتِ
والنكساتِ وكل الخسائر التي يتحمل نتائجها ويتجرع مرارتها حتى يومنا هذا، يُسطِّر
تاريخاً مشرّفاً عبر ملاحم بطولية في صراعٍ مع المحتل الصهيوني داخل وخارج فلسطين.
لم يكن لهذا
التاريخ أن ينتهيَ إلى ما أفضت إليهِ القيادة الفلسطينية الرسمية الحالية، والتي
تعملُ داخل فلسطين ضمن نظام المحتل وقوانينه، لقد رضيت تلك القيادة المعترف بها
عربيا ودوليا -وليس فلسطينيا- أن تتقوقع داخل حلقة المحتل والمجتمع الدولي وتتقزم
أمام شعبها بعجز أصحابها عن أي انجاز يُذكر لأعوام عديدة.
ولقد زاد
الأمر سوءاً عندما تآمرت السلطة في الضفة على قطاع غزة، وعُوقب أهلها بحصارٍ ظالمٍ
رفع مستوى الفقر إلى أكثر من 60%، حالة مأساوية تتفجر داخلياً بأشكال مختلفة،
انقطاع طويل لخدمة الكهرباء، وتلوث مخيف في المياه الجوفية والبحرية بسبب تدفق
مياه الصرف الصحي وعدم معالجتها بالطرق الاعتيادية، وزيادة نسبة البطالة وخصوصاً
بين الشباب، والذي أصبح وأمسى ساخطاً على وضعٍ لم يكن وِفق قراره، ويعلم يقيناً أن
سلطة رام الله وراء ذلك، فضلا عن اغلاق المعابر المستمر والتقييد على حركةِ
البضائع، ولعل الأكثر مرارةً هو زيادة حالات الاكتئاب والأمراض النفسية وفقدان
الأمل وتفاقم المشاكل الاجتماعية لدى السكان، علاوة على زيادة أعداد المرضي وموت
العديد منهم أمام أعين أهاليهم عاجزين عن توفير الدواء لهم، باختصار تعيش غزة
كارثة انسانية والعالم يتفرج.
لذلك، ايماناً
بعدالة قضيتنا وبعظمة طاقات وقدرات شعبِنا، بادرت مجموعة من أبناءِ الشعب
الفلسطيني في الخارج أوائل عام 2017 بدعوةِ أبناء الشتات والذين يُشكلون نصفَ عدد
الفلسطينيين في العالم للقاءٍ عام شامل، ليقوموا بدورهم الوطني تجاه قضيتهم
وشعبهم، ويوحدوا كلمتهم ضمن رؤية سياسية تقبل الجميع، تتمسك بالثوابت الفلسطينية،
وترفض التفريط بشبر واحد من الأرض المقدسة، مؤكدين علي حق العودة وحق تقرير
المصير، فلا يمكن للملايين منهم أن يبقوا مهمشين كأنهم سرابٌ وقد بلغت مآثرهم عنان
السماء، هم نخبٌ وكفاءات سياسية واقتصادية وثقافية وعلمية وغيرها، أسماؤهم تصدح في
ميادين الابداعِ والنجوم، فكان اللقاء التاريخي المأمول يُصبح واقعاً بحضور جمع
غفير، حيث حضر المؤتمر الأول في 25 فبراير 2017 أكثر من ستة آلاف فلسطيني قدموا من
أكثر من 50 دولة حول العالم، وأطلقوا منادين "موطني موطني.." كأنها
سيمفونية وطنية اخترق مداها جدران السلطتين، جدران سلطة رام الله المتهاكلة،
وجدران سلطة الاحتلال الزائلة، كان عرسا وطنيا امتزجت فيه دموع الفرح بلقاء جموع
غفيرة، مع دموع الأسى على وطن نشتاق إليه ونراه من بعيد ولا نستطيع حتى الاقتراب
منه.
ثلاثة أيام اجتمعنا
فيها مع نخبة من أبناء شعبنا الأبي، نناقش فيها بروح أخوية صادقة مآل جمعنا هذا
ومسار عملنا، فلا يمكن لهذا الجمع النخبوي أن ينفض دون أن يتبعه عمل، فكان القرار
بإعلان ولادة مشروعنا الوطني، والذي أطلق عليه اسم "المؤتمر الشعبي لفلسطينيي
الخارج"، ليكون صوتاً حراً لا يحكمه نظام بائد ولا سلطة فاسدة، ليكون صوت
الشعب الحر بكل تجرد، يحمل همهم ويرفع صوتهم عالياً ويُفعّل دورهم في معادلة
النضال الوطني الفلسطيني، مؤكدين على حقهم
في المشاركة في القرار السياسي دون انقاص أو تحجيم، سعيا نحو إقامة دولة
فلسطينية حرة مستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
عام مضى
اجتمعت في طياته قياداته من الهيئة والأمانة العامة وأعضاء لجانه مرات عديدة،
ليثبتوا أركانه ويدعموا أساساته، وليضعوا خططه ويبحثوا آليات تنفيذ مشاريعه، فلم
يكن بالأمر الهين أن تبدأ مشروعا ضخما ضمن موارد مالية شبه معدومة ليخدم أبناء
شعبه في الخارج ويدعم أهله في الداخل، هو بكل تجرد مشروع شعبي لا تدعمه دولة أو
كيان، تواجهه العديد من التحديات، فمنهم مشكك فيه وبقيادته واستمراريته، وهم قلة
قد أصابها مرض الإحباط والشك، ومنهم متخوفٌ من العقاب من أنظمة يعيش في كنفها إذا
انضم أو أعلن تأييده للمؤتمر الشعبي فبقي على حرفٍ متخوفاً مترقباً، ومنهم -وهم
كُثر- متحفزٌ كالفارس المقدام يقتحم الميدان، مشاركاً بوقته وفكره وخبرته ومالِه
دون خوف، مؤمناً كغيره بفكرة المؤتمر الشعبي وجدوى عمله، فإذا كان المحتل وأعوانه
يخططون ليل نهار لتكريس الاحتلال وتصفية القضية على حساب حقوق شعبنا، فشعبنا لا
ينفك عن العمل بكل الوسائل المشروعة لمواجهة المحتل وأطماعه الاستعمارية، واستعادة
أرضه وإقامة دولته المستقلة دون التنازل عن حقوقه كلها، وعلى رأسها مدينة
المقدسات، مدينة القدس بشقيها الشرقي والغربي، فالقدس واحدة والقدس عاصمة والقدس
فلسطينية لا بديل ولا تنازل عنها ولا عن شبر واحد من أرض الآباء والأجداد.
فكل التحية
لشعبنا الصامد في الداخل، وكل التحية لشعبنا الوفي في الشتات لقضيته وأرضه وأهله،
وكل التحية لمن يشاركنا العمل بالمؤتمر الشعبي، فمعكم بدأنا المشوار، وبكم انطلق
المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج يشق الصعاب ويخرق الجبال، وِجهته فلسطين، ومهما
حاولوا صده وعرقلة سيره، فمشوار التحرر والاستقلال قد بدأ بالجد والعمل وعزيمة
الرجال، ويوما ما -نراه قريباً ويرونه بعيدا- سيزول الاحتلال.
* أمين سر
الهيئة العامة للمؤتمر الشعبي