عباس والأولويات المقلوبة
أحمد الحاج
يحفظ كل من انتمى لحركة فتح في
السبعينيات، وخضع لدورات تثقيفية، نظرية التناقض الرئيسي والتناقض الثانوي، التي
دخلت للكرّاساتالتثقيفيةللحركة بتأثير من اليساريين، وتحديداً الماويين منهم.
واستُخدمت هذه النظرية في ذلك الزمن لتعطيل مبدأ المحاسبة، لكنها في الوقت نفسه
أجّلت الانفجار الداخلي لسنوات. رئيس حركة فتح والسلطة الفلسطينية اليوم محمود
عباس، يبدو أن لديه عطلاً كاملاً في البوصلة لتحديد مع من يجب أن يكون التناقض
الرئيسي ومن هو الطرف الآخر في التناقض الثانوي.
اختلال واضح في الأولويات. يظل صامتاً
تماماً عن تصريح السفير الأمريكي في الكيان الصهيوني ديفيد فريدمان حين يقول إنه
لا يوجد احتلال وإن "إسرائيل تبني في أراضيها"، لكنه ينفعل ويصفه بابن
الكلب، بتأثير من اجتماع في البيت الأبيض لمدّ غزة ببعض المعونات. وإن كان للبيت
الأبيض هدفه البعيد الذي يخدم رؤيته لصفقة القرن، إلاّ أن عباس لديه حساسية عالية
من أي دعم لقطاع غزة.
تناقض عباس الرئيسي بدا مع قطاع غزة
ومع المقاومة فيها. إنها تذكّره بفشل مشروعه التسووي الذي أطلقه ورعاه منذ
السبعينيات، حتى إنه بلغ فيه أن يقف وقتها في المجلس الوطني الفلسطيني عام 1977
ليخبر الجميع أنه من يريد أن يقتل الباحثين عن السلام فليقتله أولاً. ثم هندس
أوسلو. لم يكن هيناً عليه أن يرى المسار التفاوضيالذي رسمه يوماً ينهار بشكل لا
يمكن ترميمه.
لكن بدلاً من أن يعمد إلى تصحيح رؤيته
للصراع، نظر إلى غزة، فوجدها المرآة التي تكشف أخطاء الاستراتيجية التي اتبعها،
وتُدحض كل مقولاته حول السلام. فما عجز عن تحقيقه بالمفاوضات ربحته غزة بالمقاومة.
عجز عن وقف تمدد الاستيطان على بعد نظرة من مقره في رام الله، فأزالت غزة
ومقاومتها المستوطنات، ورضخ شارون الذي كان يردد "نتساريم كما تل أبيب".
وما كان يقوله عن سلاح عبثي في غزة أصبح يصيب مطارات العدو والمدن المحتلة عام
1948. لم تتنازل غزة فربحت، وتنازل ولم ينل شيئاً، وصار وزير الحرب الصهيوني
أفيغدور ليبرمان "الرئيس الحقيقي للفلسطينيين"، كما قال أمين سر اللجنة
التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية صائب عريقات.
قرر الانتقام بخنق غزة ومحاصرتها من
خلال إجراءات مالية واقتصادية كثيرة. اتهم مقاومتها بمحاولة اغتيال الحمد الله،
رغم كل الأدلة التي تفنّد الادعاء. لم يعد الاستيطان يعنيه وهو الذي يكاد يصل إلى
عتبة مقره في رام الله. تسريبات نيويورك تايمز المسجلة لمسؤولين مصريين وقد توافقا
على التنازل عن القدس، لم يثر لديه أي اعتراض، بينما أثاره حديث عن تخفيف حصار
مصري لغزة. لا يستحق تجميد المساعدات للأنروا وتهديد ملايين اللاجئين مؤتمر صحفي
واحد، بل يعقد المؤتمر تلو المؤتمر لمهاجمة غزة ومقاومتها.
لم يُنفّذ قرار واحد اتخذته مؤسسة من
مؤسسات السلطة أو منظمة التحرير ضد (إسرائيل). فأين قرارات المجلس المركزي التابع
للمنظمة بتعليق "الاعتراف بإسرائيل"، وأين "خطط فك الارتباط مع
الاحتلال"؟ كلها ضاعت وسط تنفيذ قرارات خنق غزة. إنها الأولويات المقلوبة في
الدفاع الذاتي للنفس المهزومة.