عبثية الحديث عن "المصالحة" الفلسطينية
بقلم: صباح كنعان
لا تزال حركتا فتح
وحماس تخفقان في تحقيق مصالحة يجمع الفلسطينيون على ضرورة تحقيقها من أجل توحيد
الجهود في الصراع مع "إسرائيل”، ويرى الكاتب والصحافي الفلسطيني المقيم في
الولايات المتحدة رمزي بارود أن سبب هذا الفشل هو تناقض جوهري في البرنامج السياسي
لكل من الحركتين المتنازعتين، وبالتالي فإن "لقاءات المصالحة الوطنية” محكومة
بالفشل، وفي موقع "فلسطين كرونيكل” الذي يديره، كتب يقول:
عندما التقى ممثلو
"حماس” و”فتح” في غزة يوم 4 يونيو/ حزيران، لم يكن هناك ضجيج إعلامي يذكر.
وفي الواقع، لم يكن
أي من الطرفين يتوقع اهتماماً إعلامياً كبيراً ب”لقاءات الوحدة” بينهما، باستثناء
اشارات متفرقة إلى "مصالحة وطنية”، و”بناء جسور”، و”عقبات” في الطريق.
ومنذ ذلك الحين، جاء
مزيد من الأدلة على أن محادثات غزة كانت استعراضاً أجوف آخر لتحقيق وحدة بين
فصيلين سياسيين لم يكونا متحدين أصلاً، وليس لديهما الشرط الأدنى اللازم لبرنامج
سياسي مشترك، دع عنك لرؤية مشتركة.
وقد نشر الكثير من
التحليلات التي تربط الانقسام بين فتح وحماس بلحظة زمنية محددة، وأرجع البعض بداية
هذا الانقسام إلى الانتخابات التشريعية التي جرت في يناير/ كانون الثاني ،2006
والتي حصلت حماس فيها على أكثرية الأصوات، أو إلى قرار رئيس السلطة الفلسطينية
محمود عباس بحل آخر حكومة وحدة في 14 يونيو/ حزيران ،2007 أو إلى القتال الدموي
الذي اندلع في غزة بعد ذلك بشهر وأدى إلى إخراج فتح من قطاع غزة.
غير أن أياً من هذه
المحطات الزمنية لا يمكن أن يفسر أساس الانشقاق بصورة مقبولة، والفلسطينيون في غزة
بوجه خاص يتذكرون رواية مختلفة، رواية تعود إلى سنتين قبل اللقاءات الفاشلة،
والحرب الأهلية، وحتى اتفاق أوسلو ذاته.
ومن المهم ملاحظة أن
حركة حماس كانت قد انشئت عام ،1987 من أجل التصدي لما رآه مؤسسوها بالطبيعة
العلمانية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ومن ضمن ما أراده مؤسسوها هو أن يقدموا
أنفسهم كبديل لسيطرة فتح بلا منازع على الثقافة السياسية الفلسطينية، والبديل الذي
عرضته حماس حصل على زخم هائل لاحقاً، ليس فقط في أعقاب فشل فتح في نيل الحقوق
الفلسطينية، وإنما أيضاً في أعقاب مبادلتها هذه الحقوق بلا خجل بمكاسب سياسية وهمية،
من مساعدات دولية - ترجمت إلى إثراء شخصي - وكثير غيرها.
والمشكلة الأساسية هي
أن نشوء حماس ذاته كان مؤسساً على التناقضات الثابتة مع فتح وايديولوجيتها - التي
كان ينظر إليها على أنها علمانية . ونجاحات حماس كانت تترافق دائماً تقريباً مع
قصور لدى فتح، وقد أثرت الحركة في نفوس الفلسطينيين العاديين بمقاومتها المسلحة في
وقت كانت قيادة فتح تتبرأ من الكفاح المسلح ذاته الذي كان في مرحلة سابقة حجر
الأساس في برنامجها الرسمي.
بكلمات أخرى، كلما
كانت أسهم فتح تنخفض، كانت أسهم حماس ترتفع، وكلما كان قادة فتح يقبلون من دون قيد
أو شرط ب”حل وسط” مع "إسرائيل” تحت ضغط أمريكي، كانت أسهم حماس ترتفع بقدر كبير.
وعلى مدى أكثر من 25
سنة، كان هذا الصراع السياسي يعبر عن نفسه بطرق عديدة، وقد كان متأصلاً في الثقافة
ذاتها التي يتبناها أنصار كل من الفصيلين: في اللغة التي يتحدثون بها، والمرجعيات
التاريخية التي يستندون إليها، والأغاني التي ينشدونها، والرموز التي يتمسكون بها،
وحتى المساجد التي يؤدون صلواتهم فيها، ونمط الثياب التي يرتدونها . ولابد من
كتابة مجلد بأكمله لمجرد استعراض الانشقاق السياسي الذي عايشه المجتمع الفلسطيني
على مدى سنين عديدة . وأن نتصور للحظات عابرة أن من الممكن تحقيق المصالحة
الفلسطينية من خلال بعض الاجتماعات المغلقة التي تعقد بين عضو اللجنة المركزية
لفتح نبيل شعث وعضو المكتب السياسي لحماس عماد العلمي - أو بين قياديين آخرين -
لهو فكرة عبثية لا يمكن أخذها على محمل الجد.
في مايو/ آيار
الماضي، اتفق كلا الفصيلين على جدول زمني لا يتعدى ثلاثة أشهر، يشكلان خلاله حكومة
وحدة وطنية ويحضران لاجراء انتخابات، غير أنهما عملا الكثير من أجل إحباط هذه
الأهداف ذاتها، إذ أطلق الطرفان معاً العنان لاستخدام لغة الاستقطاب، وشطب أحدهما
الآخر من دون خوف من عواقب، وتبادلا
اعتقال أعضائهما علاوة على ذلك، استمر كل من الفصيلين على خط سياسي مناقض للكثير
من الوعود التي أعلنت منذ توقيع اتفاق المصالحة قبل أكثر من سنتين، ومناقض لكل
اللقاءات، والبيانات، والمؤتمرات الصحافية التي عقدت وصدرت منذ ذلك الحين.
وخلال تلك الفترة
أيضاً، شكل عباس حكومة لم تعمر طويلا - بل كان عمرها قصيراً جداً إلى درجة أنه
يرجح أن يغفل مؤرخو المستقبل ذكرها في سردهم لتاريخ السلطة الفلسطينية.
علاوة على ذلك، بدأ
قائد حركة فتح رئيس السلطة الفلسطينية التحرك بمحض اختياره للدخول في "عملية سلام”
ظاهرية أخرى، وهذه المرة تحت رعاية وزير الخارجية الأمريكي جون كيري . ويمتنع
الدبلوماسي الأمريكي عن اعطاء تفاصيل بشأن طبيعة أحدث جهوده الدبلوماسية المكوكية،
التي بدأت في 28 يونيو/ حزيران، ورحلته الجديدة إلى المنطقة، هي الخامسة منذ توليه
منصبه في الأول من فبراير/ شباط . ورحلاته هذه تقارن بالدبلوماسية المكوكية التي
مارسها هنري كيسنجر في السبعينات، والتاريخ يعلمنا أنه لا يمكن طبعاً توقع الكثير
من كل ذلك، ومع ذلك، ليس مما يدعو للدهشة أن يكون عباس قد انخرط في اللعبة، الأمر
الذي أثار مخاوف لدى حماس.
وفي أعقاب صلاة جمعة
في غزة، ناشد رئيس وزراء حماس إسماعيل هنية "الأخوة في السلطة الفلسطينية وأبو
مازن ألا يقعوا مرة أخرى في فخ المفاوضات”، وألح هنية على عباس أن "يضع استراتيجية
فلسطينية ترتكز على إعادة الوحدة وإنهاء الانقسام "قبل أن يعود للتفاوض مع
إسرائيل”.
وطبعاً، حماس لا تفعل
شيئاً يذكر من أجل تلطيف حدة الجدل، ولا تعمل بجدية من أجل تحقيق تلك "الوحدة”
المطلوبة، فهذه المجموعة الإسلامية تتحرك سياسياً باتجاه خاص بها، وبصورة مستقلة
كلياً تقريباً عن بقية الفصائل الفلسطينية، وهي تضع ديمومة بقائها على رأس
أجندتها، وحماس تبلور أيضاً برنامجاً سياسياً قائماً على أولويات خصوصية في
الجوهر: فهي تستغل لمصلحتها عملية التغيير السياسي الجارية حالياً في الشرق
الأوسط، وتزدهر بفضل الدعم المالي والسياسي من أصدقائها في المنطقة، وتشكل
تحالفاتها الإقليمية الخاصة. ومثل هذه المقاربة ما كانت لتنطوي على اشكاليات لولا
واقع أنها تنحو باتجاه ربما يكون نافعاً لحماس كحركة، ولكن ليس للمشروع الوطني
الفلسطيني، الذي يسمو بأبعاده فوق الجغرافيا السياسية، أو الأيديولوجيا، أو
الانتماء الديني.
إن محادثات وحدة بين
فصيلين لهما سجلات من إعطاء أولوية أكبر للفئوية على حساب المصلحة الجمعية لشعب لن
تنجح، حتى إذا بدا في الظاهر أنها تحقق نجاحاً، وحركة فتح كانت تاريخياً الفصيل
المهيمن، وقد طورت على مدى السنين ثقافة لا يمكن أن تقبل سوى السيطرة على جميع
الفصائل الأخرى، ومن جهتها، انشئت حماس من أجل التصدي لثقافة فتح، ولكن لتقديم خطاب
مسيطر بالمثل.
وهذه المشكلة
فلسطينية في الدرجة الأولى، ولا يمكن حلها إلا من خلال برامج وطنية تستميل الأفراد
بكونها متحررة من الفئوية، وتستميل مجموع الشعب بكونها متحررة من الاستقطاب وغير
محدودة بمنطقة جغرافية، ويجب البدء في وقت قريب في نقاش وطني يتوجه إلى الهوية الوطنية الفلسطينية ويوحد
الفلسطينيين فعلياً حول أهداف مشتركة، وهذا ما كان يجب أن يحصل منذ سنين عديدة،
بدلاً من استغلال حالة الانقسام واتباع سياسات تخدم مصالح خاصة.
الخليج،
الشارقة، 22/7/2013