عشرون عاما على أوسلو: بقايا وطن وبقايا حقوق
د. عبد الحميد صيام
إفتحوا
دفاتركم وقدموا للشعب الفلسطيني وبقية العرب حسابات عشرين عاما منذ المصافحة
التاريخية التي أصبحت من أعظم الصور انتشارا في التاريخ، والتي كوفئ عليها
المصافحون بأن تقاسموا جائزة نوبل للسلام مثالثة عام 1994.
إجلسوا
أمامنا وقدموا لنا جردة حساب مفصلة عن إنجازات عشرين عاما من الذل والهوان وتكميم
الأفواه والاغتيالات والتعذيب، والهدم والاقتحامات والتنسيق الأمني، والانقسام
الحاد بين جناحي الوطن وبين الداخل والخارج. أتذكرون يا سادة حفلة العرس المهيبة
في حديقة البيت الأبيض قبل عشرين سنة بالتمام؟ كان الرئيس بيل كلينتون كالطاووس
يفرش جناحيه الملونين زهوا وهو يتأبط عن يمينه إسحق رابين وعن شماله ياسر عرفات،
ويخطو بينهما متوجا نفسه قيصر الاختراق الأهم بين طرفي الصراع الأساسيين.. لم يكن
شعبنا يعرف على ماذا تم التوقيع، ولماذا تم التوقيع،
وكيف
يمكن أن يتم التوقيع في غياب الشعب الفلسطيني وكافة الفصائل، خاصة الجبهتين
الأساسيتين الشعبية والديمقراطية، وكافة المجالس الفلسطينية: الوطني/
المركزي/الثوري، والنقابات والاتحادات، وحتى في غياب أو تغييب متعمد لمعظم قيادة
منظمة التحرير وبعض رموزها المهمين، مثل فاروق القدومي، وشفيق الحوت ومحمود درويش،
اللذين استقالا احتجاجا، واقتصرت معرفة بنود أوسلو على ثلة صغيرة لا تتجاوز عدد
أصابع اليد الواحدة، بعضهم لم يكن معروفا على مستوى الوطن وبعضهم مشبوها في
وطنيته.
تم
تعميم الاتفاق على أنه انتصار عظيم أين منه انتصارات صلاح الدين أو ثوار الأوراس
أو المؤتمر الوطني الأفريقي، بقيادة الزعيم مانديلا، أو الفيت كونغ في فيتنام. طلب
من الشعب الفلسطيني أن يرقص ويهلل للانتصار الذي، كما قيل لنا، سيؤدي خلال خمس
سنوات إلى دولة مستقلة عاصمتها القدس الشريف، وسيرفع ‘شبل أو زهرة علم فلسطين فوق
مساجد وكنائس القدس′، عاصمة دولة فلسطين ‘شاء من شاء وأبى
من أبى’.
وقيل
لنا كذلك إن الاستيطان سيتوقف ومصادرة الأراضي ستصبح شيئا من الماضي، وإن السجناء
الأبطال سيعودون إلى بيوتهم وعائلاتهم مكللين بالغار، وقيل لنا أيضا إن حق العودة
مضمون فلا تخافوا على أربعة ملايين لاجئ وما عليكم الآن إلا أن تعودوا إلى بيوتكم،
فقد ‘أدت الانتفاضة الأولى غرضها’.
وعلى
رأي أحد القادة المتحمسين للاتفاق (رحمه الله) قال مخاطبا الجالية العربية في
منطقة نيويورك ونيوجرزي ‘لقد زرعنا وآن أوان الحصاد وخائن من يحصد ولا يزرع′.
وما دام الحديث عن الحصاد بعد الزراعة فتعالوا نراجع ماذا حصد الفلسطينيون مما
زرعه الأوسلويون، من تقدم منهم ومن تأخر، كبار المفاوضين وصغارهم، وماذا حصدت
إسرائيل. ولنبدأ بإسرائيل.
إسرائيل
تعيش أزهى عصورها بفضل كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة
منذ
أن زرعت إسرائيل عنوة في منطقة تلفظها قبل نيف وخمس وستين سنة وهي تحلم بأن تصبح
مقبولة في المنطقة، رغم إنشائها على أشلاء فلسطين والفلسطينيين. وبعد شهادة
الميلاد العربية التي منحت لها من نظام السادات عام 1979، جاء دور شهادة الميلاد
الفلسطينية التي أمنها لها اتفاق أوسلو عام 1993، ثم اتفاقية وادي عربة التي وقعت
مع الأردن عام 1994. بعد عشرين سنة من اتفاقية أوسلو ها هو الأمن الذي تبحث عنه
إسرائيل طيلة حياتها قد استتب أخيرا بشكل شبه مطلق في كل فلسطين (شكرا للخطة
المحكمة التي نفذها الثلاثي دايتون- فياض
بلير) بعد أن أغلقت كافة الحدود العربية. الاقتصاد الإسرائيلي في أرقى
حالاته، حيث وصل مجموع ناتج الدخل القومي إلى أكثر من 235 مليار دولار لتحتل
إسرائيل المرتبة 27 على سلم الاقتصاد العالمي (أو 30 حسب سلم البنك الدولي) وليصل
معدل دخل الفرد نحو 32000 دولار. أما السياحة فقد أصبحت أكبر من أن تستوعبها
البلاد، وهناك خطط لتوسيع القدرة الاستيعابية لتصل إلى عشرة ملايين سائح سنويا من
العدد الحالي وهو 3,444,900 سائح. الوحدة الوطنية الداخلية في إسرائيل تعززت كثيرا
بسبب توافق الآراء حول الاستيطان والقدس وحق العودة، والأخطار الخارجية تكاد
تنعدم، لولا بعض المشاغبين القلائل في بلعين وقلندية وغزة من الخارجين عن طاعة
حماس، التي فرضت التهدئة بالقوة. منذ أوسلو شنت إسرائيل أربع حروب فقط: حربا على
المدن الفلسطينية عام 2002 لإعادة احتلالها، وشنت حربها الثانية على لبنان عام
2006 وتم اعتماد القرار 1701 في مجلس الأمن الذي وسع صلاحيات اليونيفيل الدولية
لتفي بغرض إحكام إغلاق الحدود، وشنت حربين على غزة: عملية الرصاص المصبوب
2008/2009 وعملية عامود السحاب 2012 لتضمن عدم إطلاق القذائف العبثية التي لم نسمع
عن أضرار سببتها إلا قلق سكان سيدروت. إسرائيل تعيش أجمل لحظات عمرها بعد أن دمر
العراق ومزقت سورية إربا، وها هي تستعد لفتح أبوابها لتدمير ترسانتها الكيماوية
على الطريقة العراقية، من أجل أن يبقى نظام الممانعة. والآن مصر تعيش حالة من
القلق الداخلي قد تتسع لتدخل البلاد في نزاع داخلي طويل الأمد لا نتمناه لمصر.
والانقسام الفلسطيني مرشح للتصاعد وقد تشهد غزة في وقت ليس بعيدا محاولة لاجتثاث
حركة حماس ولو بالقوة لإعادة القطاع لسلطة رام الله.
وماذا
عن فلسطين
إن
أخطر ما يمثله أوسلو أنه تنازل عن وحدة الشعب الفلسطيني وعن وحدة الأرض الفلسطينية
ووحدة الأهداف الفلسطينية. فقد جاء في رسائل الاعتراف المتبادل التي وقعها كل من
عرفات ورابين قبل أربعة أيام فقط من مهرجان البيت الأبيض: ‘تعترف منظمة التحرير
بحق دولة إسرائيل في العيش في سلام وأمن، وتقبل المنظمة قراري مجلس الأمن رقمي 242
و338، كما تلزم المنظمة نفسها ‘بالحل السلمي بين الجانبين’. كما أن المنظمة ‘تدين
استخدام الإرهاب وأعمال العنف الأخرى وستلزم أفراد منظمة التحرير بالالتزام بعدم
انتهاك هذه الاتفاقيات وفرض الانضباط’، والأخطر من كل هذا أن المنظمة تعتبر أن
كافة ‘بنود الميثاق الوطني الفلسطيني التي تنكر حق إسرائيل في الوجود.. وتتناقض مع
الالتزامات الواردة في هذا الخطاب أصبحت الآن غير ذات صلة ولم تعد سارية المفعول’.
مقابل هذا الاعتراف حصلت منظمة التحريرعلى جملة يتيمة تقول: ‘إن حكومة إسرائيل
قررت الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل للشعب الفلسطيني،
وستبدأ مفاوضات مع منظمة التحرير في إطار عملية السلام في الشرق الأوسط’. وشتان ما
بين الاعترافين.
ولنستعرض
في عجالة ماذا قدمت أوسلو للشعب الفلسطيني- ولا آتي بجديد هنا فالكل يعرف هذه
المعلومات، ولكن من الضروري أن نعيدها مرة وراء مرة وألا نكل من تكرارها:
1
الاستيطان: خلال سنوات أوسلو العتيدة تم توسيع
شامل للمستوطنات أفقيا وعموديا عن طريق التسمين أو افتتاح مستوطنات جديدة، خاصة
حول القدس. فمن بين كل عشرة إسرائيليين يوجد واحد يعيش في حدود ما بعد 5
حزيران/يونيو. لقد بلغ عدد المستوطنين في الضفة الغربية نحو 450 الفا، وفي ضواحي
القدس نحو 200 الف. ومن بين المستوطنين هناك 160 الفا يقطنون المستوطنات الكبرى
التي تحولت إلى مدن من الصعب تفكيكها أو إخلاؤها مثل أرييل ومعاليه أدوميم وغبعات
زيف وكريات أربع وغيلو. وقد أبدت السلطة الفلسطينية مرونة في موضوع بقاء هذه
المستوطنات والقيام بعملية تبادل أراض بنفس الحجم والقيمة، كما يؤكد لنا بعض
الأوسلويين. من جهة أخرى أقيمت هذه المستوطنات بشكل يضمن الاستيلاء على المياه الجوفية
للضفة الغربية. لقد أصبح الآن 80 في المئة من مياه الضفة الغربية تحت سيطرة
إسرائيل، وتستغل لأغراضها ويباع جزء منها لأصحابها الأصليين، فترى المستوطنين
يتبردون في برك السباحة وينعنشون حدائقهم بماء الضفة الغربية، وجيرانهم
الفلسطينيون يتحرقون عطشا ويشترون الماء في صهاريج يعود ريعها الى قوات الاحتلال.
2 البؤر الاستيطانية:
انتشرت هذه ‘الخوازيق’ الاستيطانية العديدة كبقع الجدري على الجسم، وتناثرت داخل
الأحياء العربية قرب القدس وعلى كافة أراضي الضفة الفلسطينية، وبالكاد تجد منطقة
فلسطينية خالية من هذه البؤر التي تعتبر حتى حسب قوانين إسرائيل غير شرعية، لكنها
تبقى في مكانها وتتضخم تحت حماية الجيش، وتعيث فسادا وتنشر الرعب في الأحياء
والبلدات العربية، وهي المسؤولة أكثر عن تقطيع أشجار الزيتون وحرقها.
3 الجدار العنصري: ابتداء من عام 2000، بدأ تشييد
جدار الفصل العنصري ليقطع أوصال الضفة الغربية ويستولي على مزيد من الأراضي تعادل
9.5 في المئة من أراضي الضفة الغربية. وعند اكتماله من الناحية الشرقية سيضع
السكان الفلسطينيين بين فكي كماشة، بحيث يلغي عمليا فكرة السيادة وحرية الحركة
والتنقل والتواصل في هذا الكيان الذي لا يشبه الدولة حتى لو سمي بذلك. ورغم صدور
رأي محكمة العدل الدولية بتاريخ 9 تموز/يوليو 2004 بعدم شرعية الجدار وضرورة
تفكيكه وتعويض المتضررين، إلا أن الأوسلويين لم يعطوا هذه المسألة أية أهمية حتى
لا يتهموا بتخريب عملية السلام، لا سمح الله.
4 شبكة الطرق الإلتفافية:
تشمل هذه الطرق كافة أنحاء الضفة الغربية بحيث تبتلع مزيدا من الأرض وتسهل حركة
المستوطنين بعيدا عن مراكز تجمعات الفلسطينيين وتسهل كذلك حركة الجيش على هذه
الأراضي، وصولا لأية بقعة في وقت قياسي. ولكل طريق سريعة حزام أمني يحميها يصل إلى
30 مترا أو أزيد من الجانبين. ويتم تجريف كافة الأشجار القريبة من الطرق هذه، كي
لا تستعمل مخابئ لرماة الأحجار من المشاغبين الفلسطينيين.
5 تهويد القدس:
تهويد المدينة كاد أن يكتمل. الجيوب العربية مخنوقة ضمن أحياء يهودية شاسعة. وقد
تم ربط المدينة كليا بعجلة الاقتصاد والإدارة الإسرائيليتين. وللتعامل مع القدس
كمدينة واحدة موحدة، تم تسيير قطار خفيف يربط كافة المستوطنات في مناطق القدس
الكبرى بالمدينة. والقطار الخفيف يمر من القرى والبلدات العربية، مثل بيت حنينا
وشعفاط والتلة الفرنسية والشيخ جراح، وفي طريقه للتمدد داخل القدس وحولها. وسيتم في
المرحلة الثانية ربطه بتل أبيب بحيث يستطيع المستوطن أن يصل من بيته في مستوطنة
رموت قرب القدس مثلا إلى عمله في تل أبيب في نحو 30 دقيقة. وهناك خطط إسرائيلية
لبناء عدد من المعالم اليهودية الضخمة في البلدة القديمة لتنافس قبة الصخرة وكنيسة
القيامة.
6 تم تفعيل قانون أملاك الغائب (من الفلسطينيين)
وقانون الأرض الميري، أي الأرض التي كانت
تعتبر ملكا للدولة الأردنية. وبما أن إسرائيل هي وارثة أملاك الدولة السابقة، حسب
قوانينها هي، إذن تصبح هذه الأراضي الشاسعة نسبيا من نصيب الدولة الحالية. وقد بدأ
بالفعل تنفيذ مشاريع كبرى (مصانع، محلات تجارية، منشآت) على أراض تصنف بأنها
‘ميري’.
7
نجحت قوات الأمن الفلسطيني بخلع أنياب كل الحركات الاحتجاجية أو المعارضة،
بحيث أصبحت سجون السلطة تعج بمئات المعتقلين الذين يتعرضون لكافة أنواع التعذيب،
خاصة أنصار حركة حماس. فيكون رد حماس في غزة بالمثل على طريقة العين بعشر عيون
والسن بمئة سن. فترد السلطة العين بمئة عين والسن بألف سن… وهات يا مصالحة.
وبينما
تتجه إسرائيل إلى التطرف تتجه قيادة أوسلو إلى المرونة السياسية التي تتحول إلى
مسلسل من التنازلات المتلاحقة، ويصبح الهدف المركزي لها المفاوضات ثم المفاوضات
بأي ثمن وتحت أي سقف. وقد وعدت وزير الخارجية الأمريكي بعدم ‘الحرد’ حتى لو أعلن
نتنياهو عن بناء 1200 وحدة سكنية أو 2000 أو 4000، لا فرق وحتى لو دخلت قوات
الاحتلال مخيم قلندية وقتلت أربعة شباب بدم بارد- لا بأس يصدرون بيانا قويا يشجب
ويدين ويستنكر ويعودون إلى طاولة المفاوضات، وما أحلى الرجوع إليها، التزاما بمبدأ
شامير الذي طرحه عندما اضطر للذهاب إلى مؤتمر مدريد عام 1991، وقال سنفاوضهم عشرين
سنة والمعنى المقصود أننا سنفاوض من أجل المفاوضات، من دون تقديم أية تنازلات، أي
نعود لنقطة الصفر التي بدأنا منها. ويستحضرني دائما ما قاله المرحوم نزار قباني:
عشرون عاما يا كتاب الهوى ولم أزل في الصفحة الأولى.
الخوف
أن تنصاع هذه القيادة الرخوة إلى الشرط الذي بدأت إسرائيل تشهره في وجوههم، كي
يفروا من المفاوضات ويتهموا بتدميرها، وهو يهودية الدولة. لننتظر سنة أخرى من المفاوضات
أو سنتين أو عشرين أخرى لعلنا نكتشف يوما أننا كنا مخطئين ومتحاملين على
الأوسلويين ونعود إلى دولتنا المستقلة ذات السيادة والمتواصلة جغرافيا وعاصمتها
القدس الشريف، ولا نمر أثناء الدخول إليها أو الخروج منها بالحواجز والجسور
والمطارات الإسرائيلية، التي ما فتئت تذيق الفلسطينيين كل أنواع الإهانات والذل
والعذاب. يومها فقط سنعلن التوبة عن معارضة أوسلو والأوسلويين من تقدم منهم ومن
تأخر.
القدس العربي، لندن، 13/9/2013