على طريق فلسطين
بقلم: صادق النابلسي
للأفكار قوة، وللكلمة خلود: فاتحاد الاثنتين يصنع التاريخ.
(هنري جيمس)
تخطى شعار هذا العام لمناسبة «يوم الشهيد المقاوم» (على طريق فلسطين) المرتقبَ والمنظورَ، من حركة مقاومة كان أقصى ما يُنتظر منها إخراج العدو الإسرائيلي من الأراضي اللبنانية. بدا الشعار يُفصح عن كامنٍ كان في ما مضى صدى آمال، وفي مرحلة لاحقة تطلعاً يُشغل الفكر وتعوزه الإمكانات، وبقي على هذا المنوال داخل البنية الأدبية وفي المخزون الثقافي والسلوك الايديولوجي يتجمع كميّاً دون أن يتحول في خطواته إلى كيف ورؤية وحقيقة. إلى أن جاءت هذه اللحظة الموهوبة تاريخياً لتخرج هذا الشعار من عنق الوقت والتحفظ إلى حيّز الإمكان الواقعي.
لم يكن هذا الشعار إذاً، مُستَوْلَداً جديداً. كان المقاومون وتحديداً بمناسبة «يوم القدس العالمي» يردّدون على وقع خطى أقدامهم وهي تصدم بثبات كبد الأرض (يجب/ أن تزول/ إسرائيل/ من الوجود). وكانت الأرض كما لو أنها بساطٌ يسيرون عليه في طريقهم إلى فلسطين، المعشوقة والأميرة وعروس المدائن.
من الناحية النظرية، كان تصوّر إزالة إسرائيل من الوجود من التصورات التي تعتبر جائزة الوقوع، برغم أن الواقع كان يأباه ويُنكره. فمنذ العام 1948 والشعارات المرفوعة، من قبل الأنظمة العربية والحركات التي انخرطت في أنشطة المقاومة ضد العدو الإسرائيلي، كانت تنتهي بمصير مشؤوم. حتى اللاءات الثلاث «لا للصلح، لا للاعتراف، لا للتفاوض مع إسرائيل» سقطت، مع صعود أربع ظواهر مرهقة هي: الأنانية القطرية، الصدامات القطرية، الهمود الثوري، ضمور حركة الوعي والأفكار في العالم العربي.
بدا فكر الأمة هرماً بما فيه الكفاية، والجسد بلا رغبة في الحركة. جماهير طغى عليها الإحباط، وقيادات استبدّ بها الوهم واستولت عليها المخاوف وأشياء كثيرة انجرفت وأزيحت بعد توقيع السادات اتفاقية كامب ديفيد، وأصـبح شعار تحرير كامل التراب الفلسطيني يخبو شيئاً فشيئاً لمصلحة متطلبات البقاء في السلطة والصورة!
بعد سقوط البندقية الفلسطينية وتحجيم حركة الفدائيين مع الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982، بدا وكأن الحلم باستعادة فلسطين قد مات إلى الأبد. دخل العرب في ظلمةِ هزيمةٍ قاسية وتوجّهت الأنظمة المشطورة فكرياً وسياسياً للعمل على تمهيد الأرض وتهيئة المناخات النفسية للتفاوض والصلح والاعتراف بإسرائيل. رويداً رويداً بدأت تنحسر صورة الفدائي الفلسطيني، وأفكار النضال والتحرر تنسحب أمام أفكار السلام والتطبيع والاستثمار. تغيرت الشعارات التي أُريد لها أن تكون حداثوية وحضارية وتمدنيّة، تلبس لباس الزمن الجديد والظروف الجديدة!
ثم خرج «حزب الله»، بَصيصَ ضوءٍ في الظلمة العربية الحالكة. بدا وكأنه قد بُعث من منطقة غسقية ويعتزم كتابة تاريخ الأمة ولو حبواً على الثلج.
أخذ كلمات الإمام الخميني التي تحرّض على إزالة إسرائيل من الوجود على محمل الجدّ. انتظم الأفراد في صفوفه وعملوا بلا كلل. كانت الحواس تتطلع دائماً لرؤية تراب فلسطين ولكن الجدار كان عالياً. استغرق الأمر حتى العام 2000 لترتفع الراية الصفراء على التلال المشرفة على أرض القداسة في وقتٍ لم يكن أحد يصدق أن يصل المقاومون إلى تخومٍ كان يُظن أنها أبعد من المريخ.
وعندما وصلوا بدأ الكل يبحث عن معدن هؤلاء الرجال وطينتهم وثقافتهم والمدرسة التي تخرجوا منها وعلمتهم كيف يَتحدَّوْنَ الصعاب، وكيف يعيرون لله جماجمهم، وكيف يرمون ببصرهم أقصى القوم، وكيف تكون جباههم مرفوعة، وكيف يكون النصر حليفهم دائماً.
هؤلاء الرجال لم يعرفوا الغلمانيات والاستعراض والغرور. كانوا يخجلون من تقصيرهم ويتوارَون خلف ستار الليل وبعيداً عن أعين الناس حتى لا يكتشف أحد رائحة عرقهم ودماء جروحهم وما صنعته أياديهم السمراء في الطريق إلى فلسطين.
اليوم، يعرف المقاومون أنّ ما قاله الإمام الخميني يقترب من التحقق. هذه الأمنية التي نظمها الوعد القرآني وإلهام الإمام العارف بمسار ومآل المسيرة، حتى إذا جاء انتصار العام 2006 خرجت الأمنية من حيّز الاحتمال إلى الحتمية. بدا الكل في حمّى الاستعداد لمنازلة العدو من جديد، متوهجاً ومتشوقاً لهذه اللحظة التي تعود فيها فلسطين من دار الغربة إلى أحضان الأهل والأحبة.
«على طريق فلسطين» شعار وضعه السيد حسن نصرالله خلفه، وهو الذي لم يتخلّ يوماً عن حدسه وتقديراته الاستراتيجية، ليقول للعدو إننا بلغنا مرحلة متقدمة من الكمال العسكري والروحي تؤهلنا لدخول فلسطين. نعم فلسطين ولمَ لا؟
لم يعد الأمر، أيها العدو، مجرد حلم تصنعه الأشواق، ونداء يتردّد في الأعماق. بل بات في متناول اليد. اتحدت الفكرة والكلمة والإرادة والبندقية والنبوغ والمناقبية والتنظيم من أجل هدف واحد: إزالة إسرائيل من الوجود. كانت الرسالة واضحة للعدو وضوح الشمس في رابعة النهار. وكان المقاومون على يقين أن الساعة آتية لا ريب فيها، وعليهم فقط وفقط انتظار إشارة السيد لتظهر الحقيقة على أفق التاريخ الجديد!
المصدر: السفير