عن الخروج
من دائرة البرج الشمالي
بقلم:
ربيع مصطفى
«ممكن أعمل برمة
بالمخيم قبل ما ننزل ع صور؟»
ـ «اعمل برمتين»
في بداية «البرمة»
ظهرت لنا من خلف زجاج محل لتصليح الهواتف سيدة تضع سيجارة في فمها. لم يعجب الشاب أن
يرى امرأة تدخن «مثل الرجال». تابعنا «البرمة». مخيم البرج الشمالي في صور يُدعى مخيم
الشهداء، وهو كذلك، لكنّ الأحياء فيه يعيشون في دائرة ويبرمون.
تعطل السير فراح
الشاب يتحدث من دون مقدمات عن صديق اكتسبه بعد عراك في ملعب كرة القدم قبل عشر سنوات.
كانا يلعبان في فريقين مختلفين وكان كلّ منهما الأمهر في فريقه، وهذا ما أجّج التنافس.
اعتلت ابتسامة عريضة وجهه وهو يستذكر اللكمة التي تلقاها على بطنه ذات مباراة قبل أن
يشير إلى الصديق الجالس على محيط الدائرة. ابتسم الصديق بدوره بعد أن رأى إيماءة اللكمة.
سألته إذا كان لا يزال يلعب كرة القدم مع صديقه، فقال إنّه استبدل صحبة الكرة بصحبة
الأركيلة.
جاءت «البرمة» بنتيجة.
حصل الشاب على راكبين جديدين. خرجنا من الدائرة. في الطريق إلى صور انتقل الحديث نحو
اعتصام الأسبوع السابق أمام مقرّ الأونروا، الذي جاء اعتراضاً على تخفيض وكالة الأمم
المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين مساهمتها في نفقات علاج اللاجئين. اشتكى
الشاب من كون أكثرية المشاركين في الاعتصام كانوا من البرج الشمالي وأنّ مشاركة باقي
مخيمات صور جاءت رمزية، لكنّه عبّر عن شعور بالقوّة والقدرة على التصعيد لكون الفصائل
الفلسطينية تدعم التحرك. تحدّث عن خطوات كإشعال الإطارات وإغلاق المكاتب. بدا حديثه
ثورياً ومتفائلاً، خاصّة مع الابتسامة التي لم تفارقه، لكنّه استدرك بالقول إنه كان
يتمنّى لو أنّ الأونروا أعلنت تخليها عن مهامها دفعة واحدة، لأنّ ذلك سيفتح المجال
للمطالبة بنقل كلّ اللاجئين إلى أوروبا. اعترض الراكب في المقعد الخلفي بالقول إنّ
مَن يذهبون إلى أوروبا يعامَلون بإذلال. أجابه الشاب المبتسم دوماً بأنّ الإذلال في
أوروبا محدود وهو يستمر سنة على الأكثر أمّا ما يتعرض له من معاملة دونيّة في لبنان
فلا حدود لها. يدلّل على هذه المعاملة بالحديث عن عناصر الدرك الذين يتصيّدون سائقي
التاكسي الفلسطينيين مستدلّين عليهم بلون البشرة ليغرّموهم على عدم الالتزام بأن تكون
لوائح سياراتهم عمومية في وقت لا تتوفر فيه كلفة اللوحة العمومية إلّا للقلّة القليلة
من الفلسطينيين.
هذا شاب عاش حياته
داخل الدائرة، لكنّه انتبه مع تزايد أعداد الراحلين أنّ هناك فرصة للفرار والبدء من
جديد. نظرة خاطفة إلى وجهه وهو يتحدّث بحماسٍ عن الرحيل تكفي ليعرف المرء سيغادر قريباً
لا محالة، وهو يعتقد أنّ جميع الفلسطينيين يجب أن يتركوا مخيماتهم والهجرة شمالاً.
سيكون الطريق صعباً ومكلفاً، وسيعيش ريثما يتعلّم لغة البلد الذي سيذهب إليه في معسكر
للاجئين يقضي وقته فيه منتظراً وجبات الطعام والساعة التي يسمح له فيها أن يخرج للبحث
عن منزلٍ والتعرّف على وطنه الجديد. في المعسكر سيكون لديه وقت كثير إذ لن يكون من
داعٍٍ للعمل طول الوقت خلف مقود السيارة والحديث عن المشاكل التي لا تنتهي. لن تكون
الأركيلة مسموحة ولهذا سيعود إلى لعب كرة القدم. سيستعيد لياقته في النهاية وسيتذكّر
لكمة صديقه لكنّه لن يسمح للحنين أن يهزمه، فلا مجال للعودة أبداً. «بعد الحصول على
الإقامة تصير زيارة لبنان ممكنة، لكن هل سمعتم عن أحد غادر في السنوات الأخيرة وعاد؟».
هكذا قال الشاب عندما وصلنا إلى صور.
المصدر: السفير