عن "الدولة" و"العودة" والرقم 194
عريب الرنتاوي
إنْ قُدِّر للدولة الفلسطينية أن تحظى بالاعتراف في أيلول الدولي في أيلول / سبتمبر القادم، فإنها ستحمل الرقم 194، بعد أن تكون «دولة جنوب السودان» التي سيعلن عن قيامها رسمياً اليوم، قد حملت الرقم 193...وفي ظني أن هذا التزامن وذاك التسلل، يحملان في طيّاتهما مفارقة من طراز خاص...قيام دولة فلسطين على 22 بالمائة من أرض فلسطين التاريخية، بعد تشظي السودان وفقدانه لـ27 بالمائة من مساحته، حدثان ينهضان كشاهد ودلالة على «بؤس الحالة العربية» وتفشي مظاهر التفكك والوهن والتفريط...أما حصول فلسطين على رقم 194، فهو تذكرة مستمرة، بأن «الدولة» لا تُغني عن «العودة»، وأن عنوان العودة هو القرار الأممي رقم (194)، فرب صدفة خير من ألف ميعاد.ثمة سياقان منفصلان لقيام دولتي فلسطيني وجنوب السودان... الأولى ستنشأ على الورق والخرائط على أمل أن تتجسد ذات يوم على الأرض... والثانية نشأت بقوة البنادق والحراب، وفي أعقاب حرب أهلية أكلت الأخضر واليابس...الأولى ستنشأ كثمرة لضيق إسرائيل، دولة جميع أبنائها اليهود، بـ»الأغيار»، وسعيها المستمر لطردهم خارج حدودها وولايتها، فيما الثانية، ستنشأ كنتيجة للنزعة الإقصائية لدولة الشريعة أو الحاكمية، أي «دولة جميع أبنائها المسلمين»...هنا يبدو تقرير المصير كفائض قيمة لــ»يهودية الدولة»، وهناك يبدو تقرير المصير، كنتاج حتمي للترجمات الأكثر اعتسافا لشعار «الإسلام هو الحل».على الأرجح، سنكون أمام «دولتين فاشلتين»، برغم الاهتمام الدولي الكبير بإقامتهما وتدعيمهما...دولة فلسطين «تعيش على نظام المياومة»، كل يوم بيومه، لا رواتب لستة أسابيع، الرواتب لأربعة أسابيع فقط، لا أكثر ولا أقل...الدولة ستنهار والناس ستموت جوعاً إن توقف جريان المنح والمساعدات في العروق المتيبسة للاقتصاد والإدارة...أما دولة السودان الجديدة، فمشروع دولة فاشلة بامتياز، لا لأنها خالية أو خاوية من الموارد، بل لأنها مشروع «مُستنبَت» للصراعات الإقليمية والمناطقية والقبلية والعشائرية، والأرجح أنها ستكون بيئة خصبة للفساد والإفساد، الأرجح أنها ستكون مصدرا لصداع مزمن، وأمراض عضال لكل من يحيط بها من دول العالم ومجتمعاته.الدولتان الناشئتان لن تكونا «نهاية مطاف» مطالبات أبنائهما وبناتهما...لا الفلسطيني اللاجئ، سينسى أنه فلسطيني أو يمكن أن يفرض على النسيان بقوة الترك والضغط وتراجع مستوى الاهتمام...ولا أهل الجنوب، يبدو أنهم قد ارتضوا بقسمتهم من أرض السودان، أنهم يلاحقون الشمال في دارفور وجنوب كردفان بل وفي قلب الشمال وعاصمته، ومن دون أن يخفى على أحد أهداف هذه الملاحقة ومراميها.وبهذا المعنى، فإن حروب المنطقتين وصراعاتهما، لن تضع أوزارها بمجرد قيام دولة فلسطين هنا أو دولة جنوب السودان هناك...وثمة من يعتقد، بأن قيام هاتين الدولتين سيعجّل في انفجار العديد من الأزمات الإقليمية، المتفاقمة أصلا، لسبب بسيط هو أن هذا الاستقلال لم يكن ناجزاً ونهائياً بعد، وأن قوى رئيسة في حركة الاحتجاج العربية والإقليمية، التي تملأ الأرض والفضاء، لم تقرر بعد، وجهة حركتها واتجاه تحركاتها.البعض يعتقد أن «القدس» ستكون أم معارك الاستقلال الفلسطيني، فإسرائيل تريدها عاصمة أبدية موحدة للدولة العبرية، والفلسطينيون ليس من بينهم، من يجرؤ على التسليم بالسيادة الإسرائيلية على القدس...هذا أمر بالغ الأهمية، ولقد تحرك الفلسطينيون مراراً وتكراراً للذود عن «عروبة مدينتهم» وقدموا في سياق ذلك قوافل تلو القوافل من الشهداء...أما دولة السودان الجنوبي، فإن «قدس أقداسها» هي مدينة «أبيي»، التي تحتفظ في ثناياها على نفط كثير...و»أبيي» السودان، شأنها شأن كركوك العراق، يطلق عليها اسم «القدس» تعظيماً لمكانتها وموقعها الروحي والتاريخي والاقتصادي والمالي...»أبيي» لمن لا يعرف، تبلغ مساحتها مساحة لبنان بأكمله، وفيها مقدرات نفطية عالية، تجعلها ذخرا استراتيجيا للسودان من جديد...فضلاً عن مخازن وخزّانات الماء والكلأ التي تنتشر على أرض المنطقة وتميزها.
أقل من عشر ساعات من لحظة كتابة هذا المقال، وترى دولة الجنوب النور وتحصل على شهادة ميلادها...وأقل من عشرة أسابيع ونعرف مصائر الدولة 194، بعدها وبعدها فقط، سنرى إن كان لشعب فلسطين وأمتيه العربية والإسلامية، أي وزن يذكر...وبعدها سنتأكد مما إذا كان لأمر «توقيت الإعلان» و»الأرقام المتسلسلة»، أي قيمة أو دلالة؟!
المصدر: جريدة الدستور الاردنية