عن غزة
و"حماس" وعن البطولة والمأساة
ماجد كيالي
توقفت الحرب
على غزة لكن أهلها مازالوا يعيشون أهوالها، فقد ذهب منهم حوالي 2200 فجأة، إذ
تحولوا إلى أشلاء، أو غبار، نتيجة قصف الطائرات الإسرائيلية، وفوقهم نحو 11 ألف
جريح، كثيرون منهم أصيبوا بإعاقات دائمة أو بتشوهات، وثمة حوالي 90 عائلة محيت
تماماً، ولم يعد لها وجود في السجل المدني. لا تتوقف الكارثة عند هذا الحدث مع
وجود حوالي 500 ألف من الغزّيين باتوا من دون بيت، أو ممتلكات، أو مكان عمل، ولا
يبدو ان ثمة في الأفق المنظور ما يمكن أن يحل هذه المشكلة. لا ننس ان ذلك حصل بعد
سبعة أعوام من الحصار تحولت معها غزة إلى سجن كبير لحوالى مليوني فلسطيني، وأن هذه
ثالث حرب يتعرض لأهوالها هؤلاء في غضون ستة أعوام.
المفارقة، أن
مأساة فلسطينيي غزة، ما بعد الحرب، تبدو أقسى بكثير مما هو قبلها، على عكس
التوقعات أو الآمال، ما يعني أن العذابات والتضحيات والبطولات، التي بذلت، لم
تثمر، أو لم تغير شيئا على ما يظهر.
هكذا، سرعان ما
تبددت أحلام الغزيين بشأن فك الحصار، وضمنه بناء مطار وميناء، يصلهم بالعالم
الخارجي، بل إن المعابر مازالت على حالها تحت رحمة إسرائيل، حتى أن معبر رفح مع
مصر لم يفتح إطلاقاً، إلا لحالات خاصة ومحددة، أما عمق الصيد في "بحر
غزة" فما زال أقل من خمسة أميال بحرية، أي أقل بكثير من 12 ميلا المفترضة.
ولا تتوقف المشكلة فقط على استمرار الحصار، والقيود على حركة أهالي القطاع، بل
إنها تشمل القيود على تحويل الأموال إليهم، وضمنه عدم إدماج موظفي السلطة في غزة،
من السلكين المدني والعسكري، في الكشوفات المالية للسلطة. وهذه باتت عقدة كبيرة في
ملف المصالحة الفلسطينية.
من جهة أخرى،
وإزاء كل ذلك، فإن حركة "حماس"، بوصفها السلطة في القطاع، باتت في وضع
صعب لاسيما ازاء فلسطينيي غزة، فهي رفعت سقف توقعاتهم كثيراً، وصورت الأمر وكأنها
فرضت إرادتها على إسرائيل، وانتصرت عليها في الحرب، وفي المفاوضات، في حين أن
مآلات الأمور لا تؤكد ذلك، إذ لم يتم رفع الحصار، ولم تأت ورش الإعمار، ولم يتم
تحويل الأموال.
المشكلة أيضاً
أن "حماس" باتت تبدو في مواقف متناقضة، فهي في خطابات قياداتها تتحدث عن
قواسم مشتركة مع قيادة "فتح"، أي قيادة السلطة والمنظمة، لاسيما بشأن
التوافق على إقامة دولة في حدود 1967، واعتماد المقاومة الشعبية، لكنها مع ذلك
تتمسك بالحفاظ على استقلاليتها بخياراتها وأجهزتها. ومثلاً، فإن هذه الحركة تطالب
بإدماج أجهزتها العسكرية في إطار الهيكلية العاملة للسلطة، وفي إطار كشوفاتها
المالية، لكن من دون أن يغيّر ذلك من طبيعة هذه الأجهزة، ومن سيطرتها عليها. وهي
أيضاً مستعدة للتخلي عن السلطة في غزة، لصالح حكومة الوفاق الوطني، لكن من دون أن
يمس ذلك بمكانتها كسلطة فعلية في القطاع. وباختصار فإن "حماس" تريد أن
تكون شريكة بالقرار والمال، وفي المنظمة والسلطة، لكن من خلال انتزاع ذلك من "فتح"،
وبالضغط عليها بطرق مختلفة. الأمر الذي لا يستهوي الحركة الأخرى، بقدر ما يستفزها،
ويجعلها تقوم بكل ما من شأنه صد "حماس"، وتحجيم طموحاتها.
وعندي، فإن
حركة "حماس"، وبغض النظر عن التوافق أو الاختلاف معها، محقّة في
مطالبها، بالمشاركة في القرار والموارد. فمن غير المعقول، مثلاً، أن نصف أعضاء
اللجنة التنفيذية للمنظمة ينتمون الى فصائل أكل عليها الدهر وشرب، ولم يعد لها أي
مكانة في المجتمع، ولا اي دور في مواجهة اسرائيل، ناهيك أن ليس لها أي مبرر وجود
لا أيديولوجي ولا سياسي. أيضاً، ليس من المعقول حرمان هذه الحركة، التي فازت في الانتخابات،
من استثمار فوزها في إطار العملية الديموقراطية، فقط بسبب أن حركة "فتح"
المهيمنة على السياسة الفلسطينية منذ حوالي نصف قرن لم يرقها ذلك. وفوق هذا وذاك،
فإن حركة "فتح" التي تأخذ على "حماس" انقلابها في غزة (2006)
وتفردها في الخيارات، وتعريضها الفلسطينيين للمخاطر جراء ذلك، هي ذاتها قامت بأول
انقلاب في السياسة الفلسطينية، بتوقيعها اتفاق اوسلو، وتحولها من حركة تحرر إلى
سلطة، وبتهميشها منظمة التحرير.
مع ذلك، فإن
"حماس" مطالبة بتغليب طابعها كحركة وطنية على كونها حركة دينية،
والتخفّف من أجندتها الإقليمية، وتحجيم الجوانب السلطوية في علاقتها بالمجتمع،
وترشيد خياراتها الكفاحية، وعدم تحميل غزة أكثر ما يحتمل. كما أن هذه الحركة معنية
بإدراك أن اساس التوافق ليس المشاركة في القرار والمال والقوة العسكرية وحسب،
وإنما التوافق على استراتيجية سياسية، وتبعا له استراتيجية كفاحية، تأخذ في
الاعتبار امكانيات الشعب والمعطيات الدولية والعربية، ما يساعد على تثمير تضحيات
الفلسطينيين وصمودهم ومقاومتهم.
القصد من كل
ذلك القول إن مشكلة غزة هي مشكلة حماس، أيضا، فحركة فتح لا تبدو مستعدة لأي خطوة
ازاء القطاع من دون تنازل "حماس" عن سلطتها، وأنها حتى لو رغبت في ذلك
فإنها غير قادرة، بسبب الشروط والقيود التي تخضع لها، لاسيما إنها مرتهنة للموارد
الخارجية. وبديهي أن الدول المانحة لا تبدي أي قابلية لدفع الأموال لأجهزة السلطة،
التي تتبع لحماس في غزة، كما لا تبدو مستعدة للمساهمة في إعمار القطاع، تحسباً من
وقوع حرب مدمرة أخرى، بسبب تخوفها من خيارات حماس. أما إسرائيل فهي غير مستعدة
لرفع الحصار نهائياً ولا راغبة بتسهيل دخول مواد الاعمار، أو الأموال، للحؤول دون
تقوية حماس، أو استعادتها لعافيتها.
هكذا لا تبدو
الصورة في غزة حسب ما يتخيّل أو يتوهّم البعض، ومن الخطأ النظر إلى الأمر من زاوية
واحدة قوامها تعظيم الصمود والبطولة، من دون رؤية الكارثة المتحققة، فالمجتمع
الضعيف، والمدمر، والذي يفتقد لمقومات الحياة، لا يمكن أن يعطي مقاومة فاعلة،
ومثمرة.
على ذلك فإن
غزة لا تحتاج إلى تصويرها كبطلة، ومخلصة، فهذه حاجاتنا نحن لهكذا صورة نمطية، نعوض
فيها عجزنا، وسلبيتنا، لكنها تحتاج منا ان نعرفها كما هي، بعذاباتها وطموحاتها،
بخوفها وشجاعتها، بضعفها وقوتها، بانكسارها وبعنادها، بآلامها وأمالها، فهذه هي
غزة الحقيقية.
غزة الحقيقية
هذه لا يضير كتابها ان يتحدثوا عنها، بجرأة وصراحة، وبالنسبة لوسام عويضة، فإن
"الحرب انتهت وما زلنا أحياء.. أنا بالتحديد، ما زلت قطعةً واحدة، هذا إنجازٌ
عظيم، والأهم أننا حققنا "انتصاراً" آخر يضاف إلى انتصاراتٍ أخرى. هذا
"الانتصار" الذي لا نعرف تفاصيله، ولا إلى أين سيذهب بنا." ويتحدث
الباحث عدنان أبو عامر عن ذلك بكلام أخرى بقوله: "ليس بالضرورة أن تكون
محقاً.. الأهم أن تكون حكيما.. أتكلم عن الكارثة الحاصلة في مشهدنا
الفلسطيني." أما الكاتبة والصحفية أسماء الغول، فكتبت على صفحتها:
"أقاوم رغبة قوية تريد الرحيل عن غزة. يا رب ثبتني وساعدني". ويقول يحيى
السيد مسامح: "غزة زي الجنة فش فيها شغل ..! "أما أحمد أبو رتيمة فعبر
عن مكنوناته باعتذار جاء فيه: "أعتذر عن كثير من قناعاتي في العامين
الأخيرين، التي تبين لي أنها كانت مبنيةً على عاطفة، لا على حكمة، في التقدير
السياسي.. كثير من القناعات بنيتها على فرضية أن صاحب الحق سينتصر بمعجزة خارقة من
دون اعتبار لموازين القوى ولقوانين السياسة والاجتماع.. بنيت هذه القناعة ككثيرين
على التربية النمطية التي شربتنا مفاهيم من قبيل المفاصلة والولاء والبراء والحسم
والمفارقة مع الجاهلية، لكن تبين أن الحياة أعقد من ذلك بكثير، وأن ظنك أنك صاحب
حق لا يعني أنك ستنتصر من دون اعتبار لموازين القوى ولطبيعة المعادلات السياسية
والأوضاع الإقليمية والدولية. تبين لي أن امتلاك الحق المبدئي لا يخولك حق إعلان
الحرب وفتح الجبهات مع العالمين، وأن من يصدم رأسه بالجدار فإن رأسه هو الذي يتحطم
وليس الجدار.. تبين لي أن الانتصار والتمكين يكون بمراكمة النقاط والتدرج وليس
بالضربة الحاسمة. تبين لي أن السياسة لا تقوم على حق وباطل وإيمان وكفر إنما تقوم
على علاقات قوى ومصالح وأن العمل يكون في حقل السياسة.. تبين لي أن المغامرات غير
المحسوبة والمواجهات غير المتكافئة هي ضرب من الجنون، وأن مفاهيم التضحية والشهادة
ليست أكثر من انتحار، إن انتزعت من سياقها، ولم تراع فقه المآلات وطبيعة المرحلة
والإمكانات المتاحة. تبين لي أن الاعتراف بالواقع الجديد ليس عيباً وهزيمةً بل هو
ذكاء وشجاعة.. "وهذه رسالة جاءتني من صديق من غزة، أراد إغفال اسمه، يقول
فيها: انا شاب (35 عاماً) لا أملك سوى بيت دمر جزئيا ثلاث مرات 2008 و2012 و2014
والآن تقيم عائلتي بالإيجار وأنا واحد من مليون ونصف مواطن في غزة.. غزة تستنزف،
وهذه حقيقة وإن شئت أزودك بالأرقام وبالأسماء.. كل أسبوع يهاجر من ثلاثة إلى خمسة
شباب عبر البحر نصفهم يصل بحمد الله، ونصفهم يضيع في البحر والبقية في السجون
المصرية أو الليبية أو الايطالية.. هؤلاء يدفع الواحد منهم على الأقل 3000 دولار
ليهاجر من غزة، وهو يعلم ان نجاته تساوي واحداً بالمئة.. أي نصر وكيلو البندورة
بدولار وربطة البقدونس بنصف دولار. أي نصر والأونروا تريد إخلاء المدارس، والناس
تبحث عن شقة بالإيجار حتى صارت أسعار الشقق أغلى من أي عاصمة في العالم."
واختم بكلام
للصحافية سامية الزبيدي تقول فيه: "في سنوات الحصار السبع العجاف.. غاب شباب
كثر عن الفعل بفعل عقار "الترامادول" بعد أن تم تغييبه عن الحياة..
والعقل.. والعمل. والآن بعد أن وضع العدوان أوزاره فهدم ما هدم، وقتل من قتل،
وعادت أحلامنا في الحياة والحرية.. تتكشف الأمور عن تفكير بالهروب والبحث عن
الأنا.. فتنشط المحاولات للهجرة.. مع ما يكتنفها من مخاطر وجنون. هجرة، انكفاء،
اكتئاب، إدمان، إجرام، تطرف، تصوف.. من استسهلوا زراعة الأمل الكبير والمتطرف
فينا.. عليهم الآن أن يتحملوا مسؤولية هذه الظواهر الخطيرة، التي يورثونا إياها،
مع كل يوم يتأخر فيه تطبيب جراح أهالي الشهداء، والجرحى، والمنكوبين في مالهم
وعيالهم وأنفسهم...
المستقبل،
بيروت