عن مشهد لم يكتمل بعد
بقلم: لمى خاطر
في منتصف عام 2012 كتبت: "في سوريا فقط يشعر أصحاب الأقلام
والأفكار وحتى الكاميرات بقيمتهم، لأن الكلمة هناك قد تكلّف صاحبها حياته، ولأن عداء
النظام في المقام الأول موجّه لحملة الأفكار، ولأولئك الذين يقتنصون فرصة لتصوير الجانب
المظلم من المشهد.. فكم هو جميل أن تبشّر بالحرية في أوساط شديدة القمع وتلاحق الهمسات
والأحلام، فهنا يكون للتحدي جماليته الخاصة، وللنفس صاحبة الرسالة تقديرها العميق لذاتها
ولدورها في الحياة".
في ذلك الوقت كانت الثورة ما زالت محتفظة بطابعها الشعبي،
ولم تكن هناك مناطق محررة، ولا تنظيمات مسلّحة تجاهد بشكل منظّم ضد النظام، ومع ذلك
كانت آلة القمع تطحن كل شارة للحرية بلا هوادة، مع فارق أن الطائرات البرميلية لم تكن
قد دخلت بعد إلى ميدان وفضاء مواجهة الثورة، لكن القتل في الشوارع وفي أقبية التحقيق
كان يومياً ومهولا، فيما كانت الإرادة الشعبية لا تزال ناهضة ومصرّة على اكتشاف مدى
قابليّتها للتحدي ومواصلة طريق الثورة.
واليوم، حيث ما زال الموت ينهش بقية أضلاع سوريا، أي مواطنيها
الذين لا يراهم النظام أهلاً للحياة ما داموا غير مجندين في حلفه ومشروعه، تبدو تلك
النظريات الناقدة عسكرة الثورة في سوريا مغرقةً في رومانسيتها وسطحيتها، ومثلها تلك
الافتراضات بأنه كان ممكناً تجنّب هذا السيل من الدماء لو حافظت الثورة على سلميتها،
أي رضاها بالموت المجاني الذي لا يحرّر أرضاً ولا يحسم معركة.
إن دروس الثورات العربية كبيرة وكثيرة، ولكن ليس منها بكل
تأكيد درس أفضلية النهج السلمي في مواجهة الطغاة والمجرمين، ولا التعويل على النفَس
الشعبي وحده بدون قوة منظمة تعزز صموده وترفد مسيرة جهاده بالزاد والتضحيات.
وهذه القوة المنظمة يلزمها مفكرون كما يلزمها مجاهدون وقادة
عسكريون وخبرات أمنية وتقنية واسعة، ولعل الحال في سوريا في السنوات الأخيرة شهد قفزة
نوعية في هذا الجانب، بدليل اتساع رقعة المناطق المحررة، إلا أن تنازع عدد من الفصائل
ورضا بعضها الآخر بالمكتسبات الآنية المتمثلة بالسيطرة على مناطق معينة، ما زال يعطّل
إمكانيات التقدّم السريع ويؤخر ساعة الحسم والتحرير الكلي لسوريا، وهي معضلة تصيب مفاصل
الثورات التي يطول أمدها، إذ يعتريها جمود وركود مدّة من الزمن قبل أن تحدث على الأرض
نقلات نوعية واسعة.
ولكن في واقع الثورة والجهاد في سوريا، يبدو طول أمد الثورة
فرصةً لتنقية المشهد وتمحيص الصفوف، وهو ما يعين على تكوين تصوّرات أكثر وضوحاً فيما
يخص حاضر سوريا ومستقبلها، باعتبارها ساحة تحمل بشائر التحرير للأمة كلها وليس فقط
لأرض الشام، فاحتشاد هذا القدر الكبير من المجاهدين في صعيد واحد سيكون له ما بعده
من إفرازات، على الوعي والقناعات وضمن دائرة التغيير في الأمة.
وحتى يستقرّ المشهد في سوريا لا بد أن يقتصد المنظّرون في
توقّعاتهم وفي تحذير بعضهم مما يسمى (السيناريو السوري) لأن هذا السيناريو لم يكن منه
مفر، وكان تطوّراً طبيعياً لبدايات دامية، ولأن في التحذير المطلق تخذيلاً لساحات ما
زالت تائهة عن إبصار مسارها المجدي في محاربة طواغيتها.. والأمر ذاته ينسحب على تلك
التصوّرات المتعلّقة بمستقبل سوريا السياسي وشكل الدولة فيها، إذ يبدو الانشغال بهذا
الجانب جهداً عبثياً في الظرف الراهن، لأن تفاعلات الأحداث الحالية تشي بأن نهاية المشهد
أو صورته الختامية ستكون على نحو غير متوقع، وغير منحصر في ساحة معينة، بل ممتدّ ومتطور
خارج إطار الحدود التقليدية والحسابات العادية.
المصدر: فلسطين أون لاين