القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الأربعاء 27 تشرين الثاني 2024

غــزة تــردّد: اضــرب اضــرب تــل أبيــب!

غــزة تــردّد: اضــرب اضــرب تــل أبيــب!


بقلم: حلمي موسى

مساء أمس الأول بدا للجميع أن التهدئة صارت على الأبواب، وخلال بضع ساعات ستعود الحياة في غزة إلى سابق عهدها. البعض، من الأصحاب القدامى، تواعد على اللقاء في المقاهي البحرية المنتشرة على شاطئ بحر المدينة. وآخرون قرروا القيام بزيارات بعد منتصف الليل. فالتهدئة بدت مفرحة للناس ممن ارتوى ظمأهم الوطني بضرب تل أبيب ولم يعودوا يرغبون في شيء، الآن، أكثر من ذلك. ولكن الساعات التي سبقت الموعد المفترض للتهدئة كانت بين الأشد قسوة لجهة القصف الإسرائيلي. وخلال يوم واحد ارتفع بشكل ملحوظ عدد الشهداء، خــصوصاً في صفوف المدنيين.

وافترض الكثيرون أنها الساعات التي يرغــب الإسرائيليون في تعديل ميزان الدم فيها لتــبرير قبولهم بالتهدئة. فالبــعض يعــتقد أنه بضرب تل أبيب بصواريخ محلــية الصنع تشــعر "إسرائيل" أنها صــارت مكشوفة وأن لا معنى البتة لقدرة الردع. وأن كل رد فعل إسرائيلي في الساعات الباقية سيكون «متفهماً» ممن يريــدون، في العالم، فرض التهدئة. لذلك بلغ التوتر في النفوس ذروته بانتــظار انقضاء تلك الساعات.

والواقع أن الإسرائيلي لم يترك مجالاً أمام الناس في غزة للاعتقاد بغير ذلك، برغم الإيمان بأنه لا يريد للناس أن يؤمنوا بغير ذلك. لم تكن ساعات رمادية بل ساعات حمراء. أضاءت القنابل سماء غزة وانتشرت النيران في أكثر من مكان وشاعت رائحة البارود في كل مكان. وبدا كأن "إسرائيل" تستخدم دفعة واحدة كل قواتها الجوية والبحرية والبرية لدك مناطق مختلفة من القطاع وخصوصاً في وحول مدينة غزة. وخال لي فعلاً أنني أشهد فيلماً من أفلام الحرب العالمية الثانية، حيث الانفجارات والنيران والدوي وبالتالي الضحايا، ولكن حقيقة لا خيالاً.

قبل أن تعلم أين كانت الضربة التي سمعتها للتو تأتي ضربة أخرى لتقفز بك إلى السؤال عن الثانية ونسيان الأولى. وكأن الإسرائيلي يريد من الناس أن تفهم أنه لن يترك زاوية من دون دكها. تأتيك الأخبار من هنا وهناك، شهيد هنا وبيت مقصوف هناك، وجرحى هنا وهناك، ومؤسسات تقصف، وسيارات ودراجات نارية تدمر. ويجد البعض عزاء في أنها ساعة أو بضع ساعة ويعلن وقف النار. وما أن تمر التاسعة من دون إعلان حتى يشرع الناس في التساؤل: ما الذي جرى؟ ولماذا لم تعلن التهدئة. قلة تناقش في التفاصيل.. الكثرة تريد التهدئة. تلمس الأمر حتى في خطاب بعض القادة أو المسؤولين الإعلاميين في الفصائل الفلسطينية. الجميع يحاول تبرير ما جرى من دون معرفة وافية بالأسباب والتفاصيل. المشكلة هنا، أن فرحة الناس بضرب تل أبيب وباستمرار إطلاق الصواريخ، تتضاءل تحت القصف خصوصاً مع اقتراب الخطر.

وما أن تبين أن التهدئة مؤجلة حتى ازداد القلق. فالبعض ظنّ أن التهدئة باتت في اليد، وهناك من يخشى أنها طارت ولن تعود. القصف الإسرائيلي الوحشي ليلة أمس دفع حتى بعض «اللا مبالين»، وهم كثر في غزة، للبدء في اتخاذ جوانب حيطة لم يتخذوها في السابق. وصار الابتعاد عن النوافذ الزجاجية أمراً ضرورياً كإجراء وقائي. فالناس هنا، بتجربتهم الخاصة، طوروا لأنفسهم منظومة إجراءات من دون انتظار جهة رسمية أو أهلية تخبرهم بما ينبغي فعله.

ونظراً لاستمرار استهداف الأبراج السكنية، جراء عدم القدرة على معرفة كل ساكنيها أو من يصل إليهم، صار الخوف ينتاب سكان الأبراج. وللمرة الأولى يختار الصحافيون، مثلاً، اللجوء إلى الفنادق أو المستشفيات لإدارة أعمالهم من هناك. وللمرة الأولى يلجأ سكان «حذرون» مثلي إلى الحيطة فينتقلون من برج مطل على كل غزة إلى بيت هادئ في محيط سكني أكثر اكتظاظاً. ولكن، مثل هذا الإجراء، بداهة، لا يضمن شيئاً. فلا أحد يعرف بالضبط من أين تخرج الصواريخ، ومن هم الذين تستهدفهم إسرائيل، ولا يمكن معرفة مقدار الأمان في أي مكان. الأمر مجرد اعتقاد لا أكثر. وما يريح المرء يفعله حتى لو كان وقوعاً في الجحيم.

غير أن المشكلة الأكبر هي التنقلات. ففي غزة نوع من الحركة الاضطرارية ولكن في ظل الخطر. ومن الجائز أن أشد ما يدل على ذلك طلب «وكالة الغوث الدولية» من مستخدميها عدم الخروج من مناطق سكناهم. وحتى الأطباء الاختصاصيين ممن كانت مهمتهم زيارة العيادات في كل أنحاء القطاع منعوا من السفر بسياراتهم إلى ما هو خارج محيط سكنهم وإلى أقرب مركز طبي لهم. وهذا يجري مع من يحملون على سياراتهم رايات الأمم المتحدة، ولا يتحركون إلا في سيارات بيضاء تحمل شارة «UN» كبيرة جداً على كل مناحي السيارة.

وقد أردت الخروج أمس من البرج في اتجاه سكني الجديد. لكن قلت في نفسي أن بوسعي إنجاز مهمات أخرى بينها تناول الغداء مع صديق. وما أن ركبنا السيارة وانطلقت حتى لاحظت أن السائق يأخذنا في طريق «مدرسة فلسطين» التي تعرض ملعبها للقصف مراراً. قلت للسائق بحذر لم أعهده في نفسي: «أليست هناك طريق أخرى؟»، رد جازماً: «كل الطرق مثل بعضها. كل المناطق تقصف ولا داعي للخوف!».

لم تمض دقائق قليلة حتى سقط أول صاروخ، والثاني والثالث. لم يرتبك السائق وقال: «لسنا مستهدفين وإلا لم نبق على قيد الحياة»، وسأل: «هل تريد مني التوقف والنزول». قلت «لا». ومن النافذة الخلفية للسيارة كان بالوسع أن ترى بسهولة أعمدة النار تتصاعد في نهاية الشارع. لقد قصف الإسرائيليون جوار ملعب اليرموك.

المهم وصلنا إلى مطــعم علــى دوار المينــاء. تناولــت وصديقاً الغداء هناك وقــررت الذهاب إلى البيت الهادئ. وبعدما وصلت بدأ دوي القصف. قالوا في البــيت إن القصف يســتهدف «المشتل» و«الســودانية» شمالاً لشــدة دوي صوتــه. ولكن سرعان ما قالت الإذاعــات المحلية إن القصف الجديــد استــهدف الميــناء جنوباً. هناك حيث كنت وصــديقي قبـل قليل.

القصف أثار مخاوف الأطفال وشحــبت وجوههــم، توقف قليلا. ارتاحت النفوس مؤقتاً بانتظار الجولة التــالية. وفجأة تتــذكر أن أكثر ما يشيع الآن في غزة من رنات هاتف، أغنــية شعبــية جديدة لازمتــها: «غزة بتضرب تل أبيب». وتقــول كلمات الأغــنية التي تعــبر عن المزاج الشعبي: «اضرب اضرب تل أبيب. اضرب تل أبيب اضربها والصهيــونية ارعبها.. يا بتعمر يا بنخــربها.. اضــرب اضرب تل أبيب. لازم تعرف يا محتل الفلسطيني ما بينذل. ما بدنا لا هــدنة ولا حل... بدنا نضرب تل أبيب. يا جيش "إسرائيل" الغاشم... كله إلا غزة هاشم... هاي جاك الرد الحاسم... واضرب اضرب تل أبيب». وتمضي الأغنية لتقول: «لو غزة تصفي منكوبة رح نبنيها طوبة طوبة. بيكفي إنها مهيوبة... اضرب اضرب تل أبيب».

وتمــضي الأغنــية للتحدث بفخر عن رد غزة بقصف تل أبيب التي لم يجرؤ حكام عرب على ضربها برغم ما يمتلكون من قدرات، وبرغم ضرب "إسرائيل" لهم.