غزة تفرض معادلتها على "إسرائيل"
حلمي موسى
خلطت المقاومة الفلسطينية
أوراق إسرائيل، ووضعتها في موقف بالغ الحرج بقرارها عدم تمديد الهدنة إلى ما بعد
72 ساعة، بسبب عدم توافر الجدية لتحقيق مطالبها المحقة بفك الحصار عن غزة.
وبعد دقائق من انتهاء سريان
الهدنة في الثامنة من صباح أمس، شرعت فصائل المقاومة، خصوصاً «كتائب القسام»
و«سرايا القدس»، بإطلاق الصواريخ على نطاق محدود دون العشرين كيلومتراً حول غلاف
غزة. وفاجأ هذا الموقف القيادة الإسرائيلية، التي كانت قد أشاعت في الداخل
الإسرائيلي أجواء انتصار قائم على الردع، وعلى سهولة تحقيق انتصار أكبر على طاولة
المفاوضات.
وكانت المفاوضات قد تعثرت
في القاهرة بين الوفدين الإسرائيلي والفلسطيني، بعدما حاول الوفد الإسرائيلي
الإيحاء بامتلاكه صورة النصر التي تسمح له بإملاء شروطه على المقاومة، وفي مقدمتها
رفض فك الحصار أو مناقشة آلياته. وعندما أطلقت المقاومة تهديدها بأنها ستكون في حل
من الهدنة بعد انتهاء سريانها، تعاملت "إسرائيل” بدرجة عالية من الرعونة، فأطلقت
تهديدات بالرد الشديد، وصولا إلى احتلال قطاع غزة.
وفي الثامنة صباحا كان
الاختبار الكبير، عندما بدأت المقاومة بإطلاق صواريخها على مناطق مختلفة في
مستوطنات غلاف غزة، ولكن من دون توسيع النطاق. وحاولت "إسرائيل” الإيحاء بأنها
تضبط نفسها، وأنها تدرس الوضع لجهة التعرف على المسؤولين عن هذه الإطلاقات،
ومحاولة حصر رد الفعل فيهم، وعلى نطاق ضيق. وبدا أن «ضبط النفس» الإسرائيلي الهادف
للإشارة إلى عدم رغبة الاحتلال في التصعيد يكسر حدة التهديدات الشديدة التي أطلقت
طوال الليلة السابقة. لكن سرعان ما عادت الطائرات الإسرائيلية لتنفيذ غارات، لم
تغير من الصورة السابقة شيئاً. فقد كانت الغارات ميالة إلى الإيحاء بأن "إسرائيل” لا
ترمي إلى التصعيد، على أمل أن تنحسر هجمة الصواريخ. لكن، بعد ساعات طويلة، وعلى
مقربة من حلول المساء تم توسيع نطاق الصواريخ إلى أكثر من 40 كيلومتراً، لتصل إلى
بئر السبع، وتوحي بالجاهزية للإطلاق نحو تل أبيب إذا استمرت الغارات.
والحقيقة أن إطلاق أكثر من
60 صاروخاً أمس، والغارات، كانت استكمالاً للمفاوضات، لكن بعيداً عن الطاولة.
وأثبتت المقاومة بإطلاقاتها أنها جادة في تهديداتها بعدم قبول أي اتفاق لا يضمن فك
الحصار عن قطاع غزة وإيجاد آليات تحقيق ذلك. ورغم كل الشائعات عن خلافات داخل
الوفد الفلسطيني المفاوض، إلا أن الحقيقة أثبتت عكس ذلك، وشددت على توافق حول فك
الحصار، ليس فقط عن غزة باتجاه الضفة، بل أيضا عن الضفة باتجاه غزة.
وبغض النظر عن أية اجتهادات
أو خلافات حول عودة المقاومة إلى إطلاق الصواريخ، فإن النتيجة الأولى لذلك كانت
إرباكاً شديداً لدى القيادتين السياسية والعسكرية في إسرائيل. فمبادرة المقاومة
للقتال فور انتهاء سريان الهدنة نسف ادعاء "إسرائيل” من أساسه بأنها حققت ردعاً
سيمنع المقاومة و«حماس» من كسر هدوء الإسرائيليين لسنوات. كما أن إطلاق الصواريخ
شرخ جدار الثقة الذي بناه الجيش الإسرائيلي في علاقته مع الجمهور الإسرائيلي.
وتكفي هنا الإشارة إلى شدة الانتقادات التي وجهت للجيش وقيادته، خصوصاً أنهم طلبوا
من الجمهور الإسرائيلي العودة إلى حياته الطبيعية في غلاف غزة. وشكلت هذه الدعوة
عنوانا للفشل الإسرائيلي في تقدير الموقف السياسي والعسكري على حد سواء. وليس صدفة
أن اندفع الكثير من ممثلي الجمهور الإسرائيلي، خصوصا في غلاف غزة، لشن حملة على
وزير الدفاع وقائد الجيش.
فالجيش الإسرائيلي أعلن
بنوع من الغمز أن العملية الحربية مستمرة، لكنه فعلا سرّح حوالي ثلث القوات
الاحتياطية التي جنّدها في الحرب. كما أنه عمد أمام وسائل الإعلام لبث صور انسحاب
قوات مدرعة كبيرة، وتوجهها إلى الشمال، في خطوة للتلميح الى أن المعركة في الجنوب
انتهت فعليا. ولا تكفي هنا إعلانات رئيس الأركان الجنرال بني غانتس بأن القوات
منتشرة على الحدود، وبوسعها العودة سريعا للعمل داخل قطاع غزة إذا اقتضى الأمر
منها ذلك.
وتقريبا ذهبت هباءً ادعاءات
غانتس «بأننا حرمنا حماس من قدرات استراتيجية في مجالي الصواريخ والأنفاق، ومقارّ
القيادة والسيطرة وإنتاج وتطوير وسائل القتال. لقد تكبدت حماس خسائر فادحة جدا.
ولن نتردد في استخدام القوة كلما تطلب الأمر لضمان أمن المواطنين. لقد اجتزنا
المعركة جيداً. ومثلما كان الهدوء سارياً في الماضي، سيسود هنا هدوء أكبر بعد
الآن». كما أن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو أعلن، أمام الصحافيين
الأجانب، أن «الوضع الأمني لسكان الجنوب بات أفضل وأشد أمناً مما كان قبل
العملية».
ولكن ليس على ألسنة
الإسرائيليين اليوم تعبير أكثر دلالة من الارتباك والحيرة. وفي نظر الكثير من
الإسرائيليين ليس مقبولاً بعد شهر من الحرب، وهذا العدد الكبير من القتلى والجرحى
في صفوف الإسرائيليين، وهذه المكانة السيئة في العالم بعد إلقاء أكثر من خمسة آلاف
طن من المتفجرات على البقعة الأشد اكتظاظاً بالسكان في العالم، أن يستمر إطلاق
الصواريخ، «كما لو لم يتغير أي شيء. هذا ليس ردعاً».
وحمل رئيس بلدية سديروت
ألون دافيدي، بشدة على موشي يعلون وقال إنه وزير من دون دفاع و«أنه فشل فشلاً
ذريعاً في توفير الأمن لسكان إسرائيل». وأكد أن «استئناف حماس إطلاق النار يوضح
لكل من كانت لديهم شكوك بأن حماس لا تشعر بأنها مهزومة، وهي لا تخاف من الجيش
الإسرائيلي، وغير مرتدعة منه».
أما رئيس «الشاباك» الأسبق
يوفال ديسكين فانتقد بشدة رئيس الأركان بني غانتس، وحمّله مسؤولية استئناف
الإطلاقات من غزة، خاصة أنه طلب من مستوطني غلاف غزة العودة إلى بيوتهم. وقال
ديسكين «لا أستطيع أن أفهم لماذا علينا الإعلان، وإبلاغ حماس أن العملية انتهت من
ناحيتنا قبل ترسيخ وقف إطلاق النار. من الواضح أن هذا استدعاهم لإرباكنا هذا
الصباح».
عموما طوال يوم أمس
والتقارير تتضارب حول ما يجري في المفاوضات. فمن ناحية أعلنت الخارجية المصرية
حدوث تقدم كبير في المفاوضات بين الطرفين، ومن ناحية أخرى أنكرت "إسرائيل” أنها
تجري مفاوضات تحت النار. كما نشرت أنباء عن هدنة غير معلنة تبدأ الثامنة من ليلة
أمس، وهو ما لم يتحقق فعليا، إذ استمرت الغارات الإسرائيلية والصواريخ الفلسطينية.
وكان المتحدث باسم حركة
«حماس» سامي أبو زهري قد أعلن، في غزة أمس، أن الوسيط المصري قدم ورقة خالية من
الإجابة عن المطالب الفلسطينية، ورفض الاحتلال بموجبها موضوع المطار والميناء
والإفراج عن المعتقلين، فيما سمح فقط بالصيد ضمن نطاق 6 أميال، وبقاء الشريط
العازل. وأشار إلى أن الاحتلال ما زال يتحكم بنوعية البضائع التي زعم السماح
بدخولها عبر المعابر التي يتحكم بها. واعتبرت «حماس» أن هذه الردود بمنزلة تجاوز
لكل المطالب التي تقدمت بها المقاومة، مشيرا إلى أن الاحتلال يمارس المماطلة
وإهدار الوقت.
أما رئيس الوفد الفلسطيني المفاوض عزام الأحمد فأعلن أن المطالب الفلسطينية
لوقف إطلاق نار دائم واضحة، ولا يمكن التنازل عنها، خاصة ما يتعلق بتشغيل ميناء
ومطار. وقال «نحن لم نطلب أي جديد إطلاقا، وبالتالي ليس من حق "إسرائيل” أن تقول
هذا مسموح وهذا غير مسموح، كما أننا نقدم مطالب ترتبط بوقف الحرب». ونوّه إلى أنه
كان هناك مطار في غزة يعمل، وطائرات تحط فيه بموافقة الحكومة الإسرائيلية وفق
اتفاق أوسلو للسلام المرحلي، كما أن الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك جاء إلى غزة
في العام 1999 - وقت كان الأحمد يشغل منصب وزير الأشغال العامة - حيث تم الاحتفال
وقص شريط بدء العمل في الميناء. وتساءل الأحمد عن سبب أن يمنع تشغيل ميناء غزة حتى
الآن، وهو متفق عليه منذ نهاية العام 1999. وشدد على أن الجانب الفلسطيني لا يرغب
بالتصعيد «لكن من حقنا أن ندافع عن أنفسنا».
المصدر: السفير