فتح بين لحظتين تاريخيتين وقيادتين
ياسر الزعاترة
لا تختلف اللحظة التاريخية التي تعيشها حركة فتح هذه الأيام كثيرا عن تلك
التي عاشتها بعد قمة كامب ديفيد صيف العام 2000، إنْ كان على الصعيد البنيوي، أم
على صعيد الوضع السياسي الداخلي والخارجي في العلاقة مع الاحتلال، مع وجود فوارق
لا يمكن تجاهلها.
في اللحظة الأولى كانت الحركة تحولت من حركة تحرر وطني إلى حزب سلطة تنمو
تحت الاحتلال، وتأمل في أن تبلغ مسيرتها حدود الحلم بطبعته الثانية بعد التأسيس؛
ممثلا في دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 67، بما فيها القدس وعودة
اللاجئين، وبالطبع بعد تجاوز الطبعة الأولى التي تأسست الحركة من أجل إنجازها
ممثلة في تحرير فلسطين من البحر إلى النهر.
كان أوسلو حوّل قطاعات عريضة من الحركة إلى موظفين، إن كان في الجهاز
الأمني؛ وهم القطاع الأكبر، أم في الجهاز المدني الذي كان يتمدد برعاية الاحتلال
وتخطيطه، وبرعاية الجهات الداعمة له، وبالطبع من أجل أن تصل الحركة نقطة اللاعودة.
في علاقتها بالداخل الفلسطيني كانت الحركة في تلك الأثناء دخلت في مزاج
صدام مع المجتمع بسبب فساد السلطة التي أنتجتها، وبسبب الصدام مع قوى المقاومة،
بخاصة حماس التي كانت تصر على مقاومة الاحتلال ورفض أوسلو ومخرجاته، وكانت سجون
السلطة تعج بخيرة أبنائها الذين أوجعوا الاحتلال خلال التسعينيات، فيما كانت سجون
الاحتلال لا تزال تعج بدورها بجحافل منهم، ومن مناضلي حركة فتح نفسها، ممن عجز
اتفاق أوسلو عن إخراجهم من السجون.
رغم ذلك، كانت الحركة (أعني فتح) لا تزال فاعلة في المجتمع وتستقطب شبانا
من كافة الشرائح، بدليل تنافسها الندي مع حركة حماس في الجامعات، ولا شك أن قدرة
أية حركة على استقطاب قطاعات عريضة من الشبان، إنما يعني أنها لم تفقد بريقها،
الأمر الذي يمكن تفسيره بالتجربة التاريخية الثرية رغم كل الملاحظات عليها.
وحين وصلت المسيرة السياسية لأوسلو الجدار المسدود في قمة كامب ديفيد،
وانتفض الفلسطينيون فيما عرف بانتفاضة الأقصى، لم يكن أمام الحركة غير الانسجام مع
المد الشعبي، وفي تلك الأثناء بدأت الحركة تستعيد وجهها كحركة تحرر، بل يمكن
القول، إنها استفادت كثيرا من انتفاضة الأقصى في ترميم صورتها في المجتمع الفلسطيني.
اليوم، يمكن القول، إن اللحظة التاريخية تكاد تتشابه إلى حد كبير، فالحركة
لا زالت تمتع بنفوذ كبير في الشارع، بل حتى بين قطاعات كبيرة من الشبان، وهو وضع
بالغ الغرابة في واقع الحال، إذ إن حركة ترفض المقاومة وتصر على مسار التفاوض، ومع
ذلك يمكنها الحفاظ على بنية شبابية أمر يستحق التوقف، وهنا يحضر البعد التاريخي
أيضا، أعني الإرث النضالي، وكذلك البعد القبلي والحزبي.
ثمة فرق لا بأس به يحضر في السياق، فهنا في الحالة الراهنة يبدو الجهاز
الأمني الجديد أكثر توغلا في التنسيق الأمني ورفضا للمقاومة من الجهاز القديم
(عماده الفلسطيني الجديد بحسب تعبير الجنرال دايتون)، في حين تبدو القيادة مختلفة
أيضا، إذ إنها من النوع الذي يرفض المقاومة بشكل قاطع، ويصر على مسار التفاوض،
خلافا للقيادة القديمة (ممثلة في شخص عرفات رحمه الله)، والتي راوح تاريخها بين
مغامرات عديدة من ميدان إلى ميدان، وكانت تملك القابلية لمزيد من المغامرة، في حين
لم تكن معنية بالمكاسب المالية الشخصية، ربما خلافا لقطاع من الذين التفوا حولها
خلال مسيرة أوسلو، وتحولوا من مناضلين إلى رجال أعمال.
في السياق العام، يبدو المشهد الفلسطيني أكثر تطابقا، بل لعل فشل مسار
التفاوض يبدو أكثر وضوحا هذه المرة، فيما تبدو قابلية المجتمع السياسي الإسرائيلي
لتقديم تنازلات أقل بكثير مما كانت عليه العام 2000، يوم انعقدت قمة كامب ديفيد،
وما من عاقل يؤمن بأن نتنياهو سيعرض على الفلسطينيين ما سبق أن عُرض عليهم في
العام 2000.
لا تسأل عن الوضوح الأكبر فيما خصّ التهويد والاستيطان؛ ما يعني أن الأجواء
جاهزة لانتفاضة فتحاوية ليس على الاحتلال، بل على قيادتها، لأنه من دون تمرد على
القيادة التي تصر على مسارها، سيكون من العسير تفجير انتفاضة في وجه الاحتلال،
ولعل من الوهم الاعتقاد بأن محمود عباس يمكن أن يكرر تجربة عرفات في انتفاضة
الأقصى.
من هنا، لا مجال أمامنا سوى التعويل على مسارين، الأول هو انتفاضة فتحاوية
داخلية ضد القيادة، وهذه ممكنة، لكنها صعبة في غياب رموز قادرين على أن يفعلوا ذلك
بعد أن سيطر عباس على الحركة والسلطة والمنظمة في آن (تدخل القدر وارد هنا). أما
الثاني، فيتمثل في انتفاضة شعبية تجرّ الحركة إلى مسار المقاومة، حتى لو اضطرت إلى
انتفاضة ضد القيادة في حال أصرت على نهجها.
ما يمكن أن يشكل جسرا للأمل الجديد في حركة فتح هو مبادرة من حماس والجهاد
والقوى الأخرى، تتمثل في إعلان تحالف ضد مسار التفاوض والتعويل عليه، وهو تحالف قد
يحرك الوضع الداخلي لحركة فتح ويساعد في إنجاز التحول الجديد بعودتها إلى وضعها
الأصيل كحركة تحرر.
من الصعب الجزم بما سيجري، لكن المؤكد أن الشعب الفلسطيني لن يصمد طويلا
على هذا التيه الراهن، سواء تورط عرابوه في صفقة يرفضها الشعب، أم أصروا على المضي
فيه والاستمتاع بمسار السلطة تحت الاحتلال، والتي توفر عيشا رغيدا و”بزنسا” جيدا
للكثيرين ممن لا يتصورون أبدا عودة الشعب إلى مسار الانتفاضة ورفض الاحتلال.
الدستور، عمّان، 26/12/2013