فلسطين بين الفيتو الأميركي
والدعم الأوروبي
بقلم: خالد وليد محمود *
على مدى المسافة الزمنية منذ زرع
الكيان الصهيوني في فلسطين عام 1917 حتى مطلع خمسينيات القرن العشرين، كانت القوى
الدولية هي التي تبنّت المشروع الاستيطاني الكولونيالي الصهيوني في فلسطين، وروجته
ودعمته. ولقد التقت على تبنّي الفكرة وترويجها من مختلف القوى الاستعمارية، على
الرغم مما بينها من تناقضات. وما كان ذلك ليكون، لولا أنها، وبدون استثناء، وجدت
في المشروع ما يخدم مصالحها الآنية والمستقبلية في منطقة استراتيجية من العالم،
ذات إمكانات مادية وقدرات بشرية وتراث حضاري، لهذا عملت على شرعنة الاحتلال
الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية.
ما الذي استجد منذ ذلك الحين؟
أميركياً، لم يتغير شيء، فالدعم الذي تقدمه واشنطن لإسرائيل غير محدود؛ منذ
البداية، نعرف أن الإدارات الأميركية لطالما أعلنت العداء للفلسطينيين وللعرب
وللشرعية الدولية وحقوق الإنسان، ولكل قيم الحق والعدالة، باستخدام "الفيتو"
ضد أي مشروع له علاقة بإسرائيل، ولا سيما إذا كان متعلقاً بإنهاء الاحتلال وإقامة
"دولة فلسطينية" على جزء من الأرض الفلسطينية، كما يجري الحديث عنه في
هذه الأيام.
ليس موقف واشنطن جديداً، ولم يكن
يوماً مفاجئاً للفلسطينيين والعرب، بل هو تأكيد جديد على مدى الترابط والتحالف
الاستراتيجي بين تل أبيب وواشنطن، حتى أن الأخيرة تعتبر "إسرائيل” بمثابة الولاية
الواحدة والخمسين، أو "الولد المدلل" لها، صفة أطلقت عليها منذ تبنّتها
أميركا، وقدمت لها كل أشكال الدعم السياسي والعسكري والاستراتيجي والاقتصادي
والمعنوي، لتصبح أعتى أنواع الاستعمار الجديد. وقد استخدمت الإدارات الأميركية
الفيتو ضد القضية الفلسطينية في مجلس الأمن، منذ العام 1948، أكثر من 60 مرة، ما
أعاق وعطل قرارات الشرعية الدولية الخاصة بحل القضية وانهاء الصراع، ووفر للاحتلال
حاضنة الحماية والدعم والتأييد.
وأمام التحرك الجديد للفلسطينيين في
الأمم المتحدة، في هذه الأيام، وتقديم العرب مشروع قرار لمجلس الأمن باسم
الفلسطينيين لإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية، وفق سقف زمني، هناك فيتو
أميركي متوقع، لإعاقة أي مشروع قرار دوليّ يضع عام 2017 موعداً لذلك، أو أي جدول
زمني لتنفيذه. وتلوح واشنطن بالفيتو من دون خجل من سياساتها التي طالما كالت بها
بمكيالين، وهي ترى، في الوقت نفسه، الدول التي كانت تقدم لها الخدمة المجانية،
وتنحاز لإسرائيل وتدعمها، وتخشى واشنطن، تبتعد عنها وتناصر القضية الفلسطينية، مثل
فرنسا وبريطانيا وإسبانيا وإيرلندا، ودول أوروبية طالبت برلماناتها بالاعتراف
بالدولة الفلسطينية، وحذف حركة حماس من قائمة الإرهاب. إنها رمزية مهمة جداً كافية
لإثارة حنق واشنطن وتل أبيب، كونها تؤدي رسالة ذات بعد سياسي واضح، مفادها أن قضية
فلسطين تتقدم وتكسب مزيداً من التأييد والتعاطف، شعبياً ورسمياً، ولا سيما في
القارة الأوروبية، التي طالما، تاريخياً، لعبت دوراً سلبياً في التعاطي مع القضية
الفلسطينية والحقوق العادلة والمشروعة. وهو إقرار علني بعدالة القضية الفلسطينية،
وبحق الشعب الفلسطيني بدولة مستقلة، ورفضاً صريحاً للاحتلال والسياسات الاستيطانية
والتهويدية التي تنفذها "إسرائيل” كل يوم.
والواضح أن تل أبيب وواشنطن صارتا
تخسران مواقع طالما اعتمدتا عليها، واعتبرتاها رصيداً وذخراً استراتيجياً، ولا
سيما عندما يتصل الأمر بالتصويت لغير صالح قضايا الشعوب العربية العادلة، وخصوصاً
القضية الفلسطينية. المثير للدهشة، وقد لا يكون مثيراً لبعضهم، هو تصويت 180 دولة
من مجموع دول العالم الـ 193 الأعضاء في الأمم المتحدة، لصالح قرار يؤكد حق
الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، بما في ذلك الحق في إقامة الدولة الفلسطينية
المستقلة. أما الدول التي اعترضت على ذلك، بالإضافة، طبعاً، لإسرائيل وأميركا
وكندا، بلدان نحتاج لمجهر لرؤيتها على أطلس العالم، مثل مارشال وبالاو
وميكرونيزيا، ومجموع سكانها كلها قد لا يتجاوز سكان مخيم فلسطيني في قطاع غزة أو
لبنان!، كما أن دولة جنوب السودان امتنعت عن التصويت.
وكان البرلمان الأوروبي قد صوت،
أخيراً، لصالح مشروع قرار يدعم الاعتراف بدولة فلسطين، بعد تأييد 498 برلمانياً
واعتراض 88 وامتناع 111 عن التصويت. ويمثل القرار الأوروبي انتصاراً رمزياً جديداً
للقضية الفلسطينية وضغطاً أخلاقياً على "إسرائيل” للقبول بإقامة الدولة الفلسطينية
على حدود 67، خصوصاً في تزامنه مع معركة مشروع القرار المزمع تقديمه لمجلس الأمن.
ربما أدركت الصحوة القارة العجوز
متأخرة، لتكفر عن ذنبها في إيجاد الكيان الاستعماري الكولونيالي منذ وعد بلفور،
فنظرتها اليوم تجاه الكيان الكولونيالي، ودعمها حقوق الشعب الفلسطيني، نابعان من
تغير الظروف الدولية، وتغيير النظرة إلى السياسات الاسرائيلية. وبهذه الخطوة، تكون
تل أبيب قد خسرت مواقع كانت تعتبرها رصيداً استراتيجياً لها في سياساتها القائمة
على العدوان والعنصرية والتوسع. فمسلسل الاعترافات الأوروبية يشير، بمعنى من
المعاني، إلى أن "إسرائيل” كيان كولونيالي متطرف، أصبحت تشكل عبئاً معنوياً على
كاهل البلدان الغربية. وأيضاً ثمة خروج من جلباب السياسة الأميركية المعادية
للحقوق الفلسطينية، وفي الوقت نفسه، اعتراف بأن طريق عملية السلام، بشكلها الحالي،
لن تفضي إلى قيام دولة فلسطينية، ولا حتى إلى إنهاء الاحتلال أو الاستيطان.
صحيح أن مشروع القرار بشأن إنهاء
الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية قد تم وضعه في عهدة المجتمع الدولي. لكن، ثمة
فيتو أميركي مرتقب بانتظاره، فالولايات المتحدة ليست معنية بانسحاب "إسرائيل” من
الأراضي المحتلة، ولا تريد قيام "دولة فلسطينية"، ولا تريد تحديد سقف
زمني ينهي الاحتلال. كل ما تريده، الآن، هو الحفاظ على دعمها للسياسات
الإسرائيلية، حتى لو كانت منفلتة من عقالها، وخارجة على القانون، على قاعدة أنه
يحق لإسرائيل ما لا يحق لغيرها، وطمأنتها، بشتى الطرق، أن ثمة التزاماً أميركياً
بأمنها وتفوقها، في مواجهة شتى التهديدات القادمة، ومن يعتقد خلاف ذلك واهم. فسقف
التوقعات في السياسة الأميركية تجاه القضية الفلسطينية يبقى يتراوح بين إبقاء القضية
الفلسطينية أسيرة مفاوضات عبثية إلى الأبد، لتكريس الانطباع العام بعدم توقف مسيرة
التسوية السياسية، وجذب المفاوض الفلسطيني للعودة للمفاوضات عبر توظيف المساعدات
الاقتصادية، وعداً بالمساعدة، أو الوعيد بقطعها للطرف الفلسطيني.
في المحصلة، إن استصدار قرار عن مجلس
الأمن بخصوص الدولة الفلسطينية، ووضع قضية فلسطين في عهدة الشرعية الدولية، بدلاً
عن إبقائها تحت "الوصاية والرعاية" الأميركية المنفردة، والمستمرة منذ
أكثر من عقدين، على الأقل بداية للخروج من حالة الخداع والتضليل التي لحقت بقضية
عادلة منذ عقود! أما الاعترافات المتتالية للبرلمانات الأوروبية بدولة فلسطين فتعد
خطوة في الاتجاه الصحيح، مع الأخذ بالاعتبار أن اتساع الأجواء المتعاطفة مع القضية
الفلسطينية في الغرب في ظل إدارة أميركية ضعيفة يبقى فرصة تاريخية، لا ينبغي
تفويتها لفضح عنصرية "إسرائيل”، وعزل الحصانة الأميركية التي تحميها من المحاسبة
قانونياً، أو سياسياً.
ستضاف هذه الخطوة التي إن أحسن العرب
استثمارها، جيداً، إلى مجموعة الأزمات التي تواجه "إسرائيل”، أقلها في فشلها
التحول إلى كيان طبيعي في المنطقة، لأنها نظام كولونيالي قائم على اغتصاب الأرض
والحقوق وطرد السكان الأصليين. ولأن الشعب الفلسطيني يزداد إصراراً على حقه، يدعمه
كل أحرار العالم.
* كاتب وباحث، نشرت دراسات ومقالات
عديدة. وله الكتب "شبكات التّواصل الاجتماعي وديناميكية التّغيير في العالم
العربيّ" و"آفاق الأمن الإسرائيلي: الواقع والمستقبل" و"مراكز
البحوث في الوطن العربي" و"قلاع اللغة العربية ورياح الثورة
الاعلامية". ماجستير في العلاقات الدولية من الجامعة الأردنيّة.
المصدر: العربي الجديد