فلسطين.. بيننا و«بينهم!»
هيثم أبو الغزلان*
تغيّرت وتبدّلت ظروف كثيرة في العالم العربي، وصل
إلى الحكم عبر الانقلابات أو بطريق أخرى من نادى بالتحرير وتحقيق التقدم والتنمية.
ذهب «الرجعيون والقادة التقليديون» الذين خسر العرب بوجودهم جزءاً من فلسطين عام
1948، وجاء «التقدميون» و«الثوريون» بشعارات «فضفاضة» و«ثورية» تحرق الأخضر واليابس،
فكُتِمت أنفاس الشعوب، وصودرت إرادة الملايين لأنه لا «صوت يعلو فوق صوت المعركة»،
والنتيجة ضياع الجزء المتبقي من فلسطين عام 1967، وأراضٍ عربية أخرى.
بعد ذلك تلاحقت الأحداث التي جعلت الشعوب في تلاطم
كبير لا تقوى معه على «التمييز»، فرغم الإنتصار الذي تحقق في حرب تشرين أول/ أكتوبر
عام 1973، إلا أن نتائجه ومفاعيله استُخدمت ضمن إطار واحد ومعروف هو تحريك مسار المفاوضات،
وليس نقطة انطلاق لعملية بناء متراكم من أجل استكمال عملية التحرير التي كانت الجماهير،
ولا زالت مُتحمّسة لخوضها وما لبثت هذه المفاعيل أن ظهرت في زيارة أنور السادات إلى
القدس المحتلة، وبعدها في توقيع اتفاقية «كامب ديفيد» عام 1979 والتي أخرجت مصر بثقلها
المعروف من الصراع، وأحدثت انقسامات في «جبهة الحرب العربية» ضد الدولة العبرية.
على مدار عشرات السنوات ارتفعت الأصوات وبُحّت الحناجر
المُطالبة بتحرير فلسطين وإسقاط أنظمة حكمت شعوبها بالحديد والنار، ورغم سقوط عدد من
الأنظمة الحاكمة في تونس ومصر وليبيا، لكن قضية فلسطين ظلت ـ لاعتبارات كل دولة ـ ،
بعيدة عن البرنامج اليومي للثورات العربية، ريثما يتحقق الاستقرار الداخلي لكل دولة
وتأسيس ما سعى إليه البعض من حالة استقرار وطني ونشر الحريات وتحقيق الاستقلال. وضمن
سياق ما تحدثنا عنه فقد ظلّت القضية الفلسطينية ضمن الحالة العاطفية التي لم يستطع
الكثيرون التقاط إشاراتها للانطلاق لتغيير الواقع وفرض معادلات جديدة. وأسس الانقسام
بين فتح وحماس لشرخ كبير، أفقياً وعامودياً، ويزداد اتساعاً، ما ساهم بشكل أو بآخر
في انفضاض الكثيرين، وعدم قدرة عامل "القضية الفلسطينية" في بعث الجماهير
الفلسطينية والعربية باتجاه التوحد من اجل انجاز هدف التحرير.
وفي المقلب الآخر، سعى الكيان الصهيوني للسير في
المفاوضات عبر فرض الوقائع على الأرض، وقبول الإدارات الأمريكية بما هو موجود فعلاً
وقائماً على الأرض، فالدراسات الأمريكية ومنها دراستان نفذتهما مؤسسة «راند» الأمريكية:
الأولى بعنوان: «بناء دولة فلسطينية ناجحة»، والثانية «القوس بنية منهجية لدولة فلسطينية»،
تحدثتا بالمجمل عن قيام دولة فلسطينية ناجحة، وإحداث تنمية جذرية في فلسطين مع تواصل
حر بين أجزاء هذه الدولة وسلطة تنفيذية جيدة تكافح الفساد وتطبق القانون.
ومن غير الخافي أن استخدام الدراسة تعبير «تواصل
حر بين أجزاء هذه الدولة» ينطلق أساساً من افتراض أن هذه الدولة لن تكون ذات تواصل
جغرافي، وإنما مجموعة أجزاء متناثرة تتخللها محميات إسرائيلية ومناطق عازلة!!
ويعزز ما سبق ذكره، ما نشرته مجلة «نتيف» الإسرائيلية
المتخصصة في الأبحاث السياسية والإستراتيجية، أن أكثر من 250 من العلماء والباحثين
والأكاديميين والعسكريين والاقتصاديين والسياسيين أعدوا مشروعاً خاصاً لدولة «إسرائيل»،
يتمحور حول مستقبل «إسرائيل من عام 2005 حتى عام 2020»: ويحمل عنوان «مستقبلنا» في
عام 2020، وتضمن خمسة عشر سيناريوا، يجري تنفيذها على مراحل زمنية متعاقبة، ويجري تعديل
بعضها وفق النتائج والتطورات التي من الممكن حدوثها.
وتتلخص بنود الخطة بـ: إقامة كيانين قوميين على
الأرض «دولة إسرائيل ودولة فلسطين» وعدم السماح للكيان الفلسطيني بإنشاء جيش أو تضخيم
قواته الأمنية.
وفي حال فشل البند الأول وبالتالي يفشل الثاني يتم
العمل على محاولة توحيد الفلسطينيين مع الأردن «فيدرالياً، أو كونفدرالياً». وتبرم
الدول العربية والإسلامية معاهدات «سلام» كاملة مع «إسرائيل» تتضمن إسقاط حق عودة اللاجئين
الفلسطينيين في العودة إلى أي من الدولتين الفلسطينية أو الإسرائيلية، وإقامة مشروعات
«إسرائيلية» ـ عربية مشتركة يسيطر عليها اليهود ويقدم العرب القوة البشرية والأرض،
وإقامة طرق سريعة تصل «إسرائيل» ببيروت وعمان والقاهرة وعواصم عربية أخرى. كما تم التطرق
إلى إنشاء وتطوير السكك الحديدية بين البلدان العربية و«إسرائيل»، واستثمار الإمكانيات
السياحية الأردنية بترتيب جولة سياحية للسائح الأجنبي لإسرائيل في الأردن والعكس، وإقامة
مشروعات مشتركة لتحلية مياه البحر الميت ونهر الأردن، وتطوير منطقة صحراء النقب الجدباء
كي تستوعب مليون مهاجر يهودي وبذلك تصبح في عام 2020 ثالث أكبر التجمعات السكانية الإسرائيلية
بعد تل أبيب وحيفا، ويقود «إنهاء» حالة الحرب بين «إسرائيل» والدول العربية إلى تقليص
الإنفاق على الأمن الإسرائيلي، وبالتالي توجيه هذه الأموال المقلصة من ميزانية الأمن
إلى المشروعات الصناعية وزيادة التصدير إلى الدول العربية، وزيادة النشاط الاقتصادي
والتجاري عن طريق العمل على جعل «إسرائيل» مركز الشركات المتعددة الجنسيات ووكيلها
الرئيسي في المنطقة، وانتهاء حالة المقاطعة العربية والإسلامية «لإسرائيل» سيفيدها
من خلال جلب المزيد من الاستثمارات العربية والأجنبية، كما تركز الخطة على ضرورة استجلاب
نصف يهود العالم أو أكثر إلى إسرائيل.
ما تقدم لا يعني أن إسرائيل دولة خالية من المشاكل
أو أنها غير قابلة للانكسار والهزيمة كما حصل معها في اندحارها من لبنان عام 2000،
وهزيمتها في 2006، و2008ـ 2009، و2012 في غزة. فقد أصبحت إسرائيل تشبه اليوم بعض الأنظمة
العربية التي سقطت مؤخراً، فقد وصفها آفي شلايم المؤرخ الإسرائيلي بأنها دولة مارقة
تمارس الإرهاب وتخترق القانون الدولي وتمتلك أسلحة دمار شامل.
وفي مقابل هذا، ظهرت وبانت عوامل الضعف والتردي
العربي من خلال عدم القدرة على حل الخلافات أو الوصول إلى صيغ وحدوية قوية وقادرة على
صهر الدول العربية في بوتقة واحدة.. بل شهدنا العكس من ذلك، إضافة حالة الافتراق الحاد
بين الشعوب من جهة وحكامها من جهة أخرى.
هذا التواصل في التراجع العربي الرسمي، قابله صمود
فلسطيني رائع أذهل العالم، وفرض على الاحتلال الإسرائيلي، وخصوصاً المجرم أرييل شارون،
الذي وصل للحكم ضمن قاعدة تقول: «دعوا الجيش ينتصر»، وبدل أن ينهي الانتفاضة والمقاومة
أخذ قراراً في (14/4/2004)، بالانسحاب الأحادي الجانب من قطاع غزة تحت ضغوط المقاومة
المسلحة التي استطاعت أن تحقق انجازات عسكرية كبيرة رغم ضآلة الإمكانيات وقلتها.
مما تقدم، نستطيع القول إنه رغم تواصل التراجع الرسمي
العربي أمام «المشروع الأمريكي ـ الإسرائيلي» في المنطقة، واستمرار «الدولة الإسرائيلية»
في تسجيل نقاط تقدم لصالحها في المنطقة العربية والإسلامية، فإنه يسجل افتراق في الموقف
تجاه «إسرائيل» بين الموقف الرسمي والآخر الشعبي. أمام هذه الواقع يجد الفلسطينيون،
أنفسهم أمام واقع عربي متردٍ، وظروف داخلية صعبة، وعدو استطاع خرق الجبهة الرسمية،
وليس أمامهم من خيار إلا مواصلة الجهاد والنضال لتكريس حقائق التاريخ على الجغرافيا،
ومقولات الحق على أرض الواقع.
* كاتب فلسطيني
المصدر: صحيفة الاستقلال/ غزة