فلسطين و"الأكثرية الأخلاقية"
بقلم: طارق متري
جاءت كلمة الرئيس محمود عباس، أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة، مدفوعة بقوة معنوية كبيرة. ولبست لغة الكرامة الوطنية والحقوق الوطنية، بعيدا من التكيّف الواقعي أو المناورة. وذكّرت ان دولة فلسطين ليست مجرد أفق لعملية يخرّبها الإسرائيليّون مرة تلو المرة بفعل اغتصاب الأراضي المتواصل وهدم البيوت وتشريد الفلسطينيين وقهرهم ونكران الإلتزامات وتغيير القواعد. وأشارت أيضاً الى ان السياسة الأميركية شغلت العملية التفاوضية بذاتها حتى بات استمرارها يعلو على تقدمها نحو اهدافها المعلنة. كما توقفّت عند مسألتي تحويل الصراع في فلسطين وعليها الى مواجهة دينية ونزع الشرعية عن الإستيطان والإحتلال. وعلى هذا النحو، أظهرت قضية الحق في الدولة بصفتها قضية اخلاقية. ومن شان ذلك ان يجعل في مكامن الضعف مبعث قوة.
في المقابل، وعلى رغم ان علاقات القوة الفعلية التي لا تهدّدهم في المدى المنظور، لا يخفي الإسرائيليون قلقهم من تعاظم الأهمية الأخلاقية للمطالبة بالدولة الفلسطينية وللإستعداد الواسع للأعتراف بها. وما الإصرار على يهودية الدولة إلاّ هروبا اسرائيليّا، ودعوة للهروب، من تحّمل التبعات الأخلاقية للحالة الراهنة. والقول بالدولة اليهودية يرى النزاع، مباشرة على لسان ليبرمان أو مواربة على طريقة نتنياهو، بصورة مواجهة دينيّة لا تستطيع الحلول الوسط "الجغرافية" ان تضع حدّا لها. وبحسب هذه الرؤية، لا يعود الفلسطينيون في اسرائيل اصحاب حق في المواطنة بل فائضا سكانيا. ويصبح المستوطنون اصحاب حق في الأرض المغتصبة استنادا الى مسوّغ ديني، أو شبه ديني، يقرأ بعض صفحات التوراة كما لو كانت بمثابة سجّل عقاري. امّا السعي الفلسطيني المتمثل بطلب الإعتراف بالدولة فيتحوّل في نظر حكومة نتنياهو، وفي نظر الرئيس الإميركي، من سعي لنزع الشرعية عن الإستيطان والإحتلال الى تهديد شرعية وجود اليهود في اسرائيل.
والحديث الإسرائيلي عن اتساع التأييد العالمي للدولة الفلسطينية، بين سائر الدول والشعوب، يحاول استعادة صورة الضحية. اذ يرى فيه طعنا بشرعية اسرائيل. ويؤيده في ذلك كلام الرئيس اوباما في الجمعية العمومية للأمم المتحدة عن التهديدات التي تعرّضت لها اسرائيل ولا تزال، بغضّ النظر عمّا اذا كان مضطرا اليه عن غير اقتناع. لذلك، وبعد التعاطف الكبير الذي لقيه خطاب الرئيس عباس، سارع نتنياهو الى القول إن الذين يعارضون الطلب الفلسطيني باتوا "أقلية أخلاقية". في حقيقة الأمر، أدرك حجم التراجع الذي اصاب ما كان يحسبه شرعية اسرائيل الأخلاقية التي لم تعد تحرص عليه، بالشفاه ام بالقلوب، سوى الولايات المتحدة، بعدما لوى ذراع رئيسها في الكونغرس وفي انتخابات فرعية، وأقلية من الدول تسير في ركابهما. فجاء قوله، على رغم التأكيد الظاهر ان معسكر الأخلاق لا يزال في مكانه، اعترافا بخسارة المعركة الأخلاقية.
في الماضي، كانت الغلبة الأخلاقية لإسرائيل، في العالم الغربي خصوصا، بفعل تأثيم جماعي غير محصور بمن سكت عن المحرقة أو تخاذل أمام العنصرية النازية، فضلا عن عوامل أخرى، بعضها يتعلّق بالشركة في الثقافة والقيم وبعضها الآخر باعتبارها دولة ديموقراطية محاصرة ومهدّدة. غير ان الوضع تغيّر على نحو تراكمي في العقود الثلاثة الأخيرة، بطيء مرة ومتسارع مرة أخرى، بدءا من قطاعات واسعة في الرأي العام أولا وبين الدول نتيجة ذلك. صحيح ان هذا التغيير، ولعلّ اكثره عمقا ما شهدته الأوساط الجامعية والكنسية حيث قامت على سبيل المثال، مبادرات لسحب الإستثمارات من اسرائيل ولمقاطعتها، لم يؤت ثماره بعد لجهة تغيير الواقع في فلسطين. الاّ انه ساهم في بناء وعي مختلف لا تأثير له اليوم، ولا غدا أكثر من اليوم. ففي الولايات المتحدة مثلا، لا يحجب النفوذ السياسي لمجموعات الضغط المؤيدة لإسرائيل، والإبتزاز الإنتخابي الفعّال الذي تمارسه، ظهور فهم جديد بين الشباب والطلاب لم تعد الأوساط اليهودية مقفلة في وجهه. وهو يضفي الشرعية الأخلاقية على المطالبة الفلسطينية بالحرية من الإحتلال وبالحق الوطني في إقامة الدولة المستقلة.
ومن نافل القول انه اذا صارت مقارعة اسرائيل على الصعيد الأخلاقي قضية كونية فإنها تستحق ان تستعاد بصفتها قضية لبنانية. ولا يعفي العداء اللبناني لإسرائيل والدعوة المستمرة الى التصدي لها من هذه المسؤولية. في الماضي، كان لبنان، بكل فئاته واتجاهاته السياسية، ذا دور بارز في مواجهة اسرائيل على الصعيد الأخلاقي. وفيه تكوّنت في الستينات والسبعينات ادوات متنوعة في خدمة هذه المواجهة، أذكر منها على سبيل المثال "مؤسسة الدراسات الفلسطينية"، وهي لبنانية وفلسطينية وعربية، و"الندوة العالمية للمسيحيين من اجل فلسطين". وكانت الديبلوماسية اللبنانية تعرف حيوية كبيرة في هذا المضمار.
وتبدّلت الأحوال بعد كل ما اصاب العلاقات اللبنانية - الفلسطينية خلال المواجهات المسلحة والمتعاقبة والمتدخلة مع الصراعات الداخلية والملبننة من جروح. ولم يكن مستغربا ان يؤدي ذلك الى ضمور الدور اللبناني في الدفاع عن "عدالة القضية الفلسطينية" كما كان يقال. أما اليوم، وفيما تبدو العداوات الماضية ماضية بحق، فإن العمل على شفاء الذاكرتين اللبنانية والفلسطينية من طريق الحوار والتعاون يفتح المسالك امام ادوار لبنانية قديمة وجديدة.
غير ان طغيان مسألة التوطين، وفيه قدر كبير من الإفتعال، يضع العوائق امام تلك المسالك. والقول برفض التوطين، وهو ما يؤكد اللبنانيون كلهم اجماعهم عليه، يتجسّد بالحماسة اللفظية لحق العودة والنكران الفعلي للحقوق الاساسية لفلسطينيي لبنان، ومرة ثانية بتضخيم اعداد الفلسطينيين المقيمين في لبنان واعادة اختراع صور نمطية بهدف تخويف اللبنانيين منهم، وثالثة بإعطاء سلاح حزب الله وظيفة اضافية في منع حصول التوطين، ورابعة بإقحام الحذر من احتمالات تجنيس الفلسطينيين عند البحث في قوانين لبنانية مثل حق المواطنة المتزوجة من اجنبي في اعطاء الجنسية لأولادها.
لذلك فإن وضع قضية التوطين في نصابها، من دون تهوين بالطبع ولكن من غير تهويل، ضرورة لتجديد قدرة لبنان على استئناف دوره بعد طول تعثّر. وعلى رغم حسبان البعض اننا امام افتراض يخلو من الواقعية، فإن التشديد على موقع خاص للبنان في "الأكثرية الأخلاقية" من أجل فلسطين هو من شروط وفاء هذا البلد لذاته.
المصدر: جريدة النهار اللبنانية