القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الثلاثاء 26 تشرين الثاني 2024

فلسطين والله والصفّ الأوّل ...

فلسطين والله والصفّ الأوّل ...

بقلم: جان عزيز

لا ذكر لفلسطين في الإرشاد الرسولي

في أدبيات الكرسي الرسولي، لكل نص بنية وقاموس. وفي عرف حاضرة بطرس أن مجمع الأساقفة ليس محطة، ولا لحظة. بل هو مشروع متكامل، مسار، صيرورة. أفضل تعريف له اسمه اللاتيني ذات الجذر اليوناني: سينودس، أي السير معاً. لذلك تتحدث الكنيسة عن «المسيرة المجمعية». والمسيرة تلك، كما يسوع في الكنيسة، أمران: منظور وغير منظور. غير المنظور في المجامع صلوات المؤمنين ونعمة الروح. فيما المنظور مجموعة كاملة من النصوص، تشكل في تكاملها مسيرة المجمع. تبدأ تلك النصوص بطرح الأسئلة، كل الأسئلة الممكنة، عبر وثيقة «الخطوط العريضة» (لينيا منتي). بعدها تنكبّ جماعات المؤمنين على التفكر في الأسئلة واحتمالات تحدياتها. فتكون الوثيقة الثانية «أداة العمل» (إنسترومنتوم لا بوريس). في مرحلة ثالثة، ينعقد المجمع بحضور الآباء ومشاركين، ويصدر عنه «نداء» أو توصيات. وفي مرحلة ختامية أخيرة، يطلق الحبر الأعظم الإرشاد الرسولي. مجموع تلك الوثائق يشكل مسيرة أي مجمع. ولكل منها روحيتها وفلسفتها، وبالتالي مفرداتها ومعانيها.

الإرشاد نص توجيهي عام. يحرص على تاريخية صاحبه وثبات مدلولاته في الزمان والمكان. يكمل ما سبقه، فلا يكرر ولا ينقض ولا ينتقص. في الإرشاد الرسولي حول أوضاع مسيحيي الشرق الأوسط، فرضت فلسفة النص عدم ذكر أي بلد. العراق الذي كان محور انعقاد المجمع قبل سنتين، والذي دارت حوله وحول مسيحييه حوارات وسجالات، لم يذكر في الإرشاد. لبنان الذي اختاره قداسته مقراً لإطلاق رسالته، لم يذكر أيضاً. سوريا النازفة، مصر المحترقة في دهشور، الخليج المكبل المقهور في أحاديته الإلغائية... كلها بلدان وقضايا وأزمات لم تذكر.

لكن يبقى تكامل النصوص المجمعية هو ما يعلن موقف الكرسي الرسولي من مسألة معينة، في سياق مجمع محدد. وفي حالة السينودس الخاص بالشرق الأوسط، جاءت توصياته قبل عامين لتشخص أزمة مسيحيي المنطقة في مواجهتهم تحديات، أولاها «الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية». لا بل ذهبت التوصيات أبعد فأكدت أن من أسباب تفاقم الأزمة وجود «تيارات لاهوتية مسيحية أصولية تبرر من الكتاب المقدس احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية، ما يزيد من صعوبة وضع المسيحيين العرب». وربطت التوصيات مسألة الحوار بين الأديان بالقضية الفلسطينية، فتحدثت عن «علاقة ما زالت مدموغة بحالة عداوة (...) بسبب احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية وبعض الأراضي اللبنانية والسورية»، فضلاً عن تذكير التوصيات بتوجه الفاتيكان إلى الشعب الفلسطيني، مؤكداً أنه «يدعم حقّ شعبكم في وطن فلسطيني، ذي سيادة على أرض أجداده»، علماً بأن التوصيات نفسها ترى أن «في الشرق الأوسط صراعات عديدة، نابعة من المصدر الرئيسي، وهو الصراع الإسرائيلي _ الفلسطيني»...

كان كلام البابا مبارك عن الله والإنسان ضرورياً في زمن شرقنا هذا. وإن بدا وقتاً مستقطعاً من أيامنا السود. في لحظة يكاد الضمير البشري الحر _ المحظور في كل مجتمعاتنا ودولنا وأنظمتنا ودساتيرنا _ يكاد يكفر بالديانات المسماة سماوية، وتراه يهرب لاهثاً خلف «ديانة إنسانية». الفارق بين الاثنين أنه في الأولى نختلف على الله: اسمه، ابنه، نبيه، حكمه، حلُّه حُرمه... وفي الثانية نتفق حول الإنسان: حياته، حريته، خبزه، كرامته، سعادته، خيره... في الأولى نشن حروب السماء، وفي الثانية نرسي سلام الأرض. كان كلام «مبارك» ضرورياً لتظل فسحة اكتشاف لأي ضمير حر حي، أنه ليس بالضرورة كلما كان الله، أن يأمرنا بأن نقتل ونُقتل ونقتتل من أجله. من الممكن أن يكون الله، وأن يأمرنا بالحياة لأجلنا، وأن يموت هو لذلك: «أن استخدام كلمات الوحي، الكتابات المقدسة أو اسم الله، لتبرير مصالحنا أو سياساتنا التي يمكن مراعاتها بسهولة، أو لتبرير لجوئنا إلى العنف، هو جريمة في غاية الخطورة»...

في قدّاس الواجهة البحرية لبيروت، كان البابا طيلة الوقت ينظر إلى البعيد، إلى الخلف النائي ببحر البشر. كان يقلب بعينيه على موج المصلين صفحات إنجيله. كيف كانوا يأتون من البعيد، مشي أيام وليالٍ، ليسمعوا المعلم. كان يتطلع في الأفق بحثاً عن زكا متسلقاً شجرة، عن مخلع سدّوا عليه الجدران، عن نازفة من كرامتها أو حريتها أو إنسانيتها في تلك الأرض المطمورة على حقوق الناس. لم ينظر أبداً إلى الصفوف الأولى. فهؤلاء وصلوا في سياراتهم الفاخرة إلى خطوات من المذبح. لم تغبر نعالهم طريق، ولم يرطب جباههم تعب، كما في كل حياتهم. ظل مبارك ينظر إلى الخلف، ويردد قوله للشباب قبل يومين: «الأمثلة التي تحيط بكم ليست دائماً الأفضل. كثيرون ينسون إعلان يسوع عندما قال: «لا يمكن خدمة الله والمال. ابحثوا عن معلّمين صالحين، يعرفون كيف يرشدونكم إلى طريق النضج، والتحرّر من الأوهام والإحباط والزيف»...

المصدر: الأخبار