فلسطين وكيس الطحين
بقلم: أمجد عرار
"كنا نطالب بفلسطين صرنا نطالب بكيس طحين” . شعار تتقافز منه كل تعابير الأسى من النوع الذي "صُنع في فلسطين” على يدي الاحتلال . ليس من السهولة بمكان أن يضع الفلسطينيون الاحتلال جانباً ويتظاهروا من أجل قضية أخرى غيره، لكنّها لقمة العيش المرة، والمسؤولية عن أطفال لا ذنب لهم تقصم الظهر وتُغرق سفينة الصحراء . لم يترك الاحتلال شيئاً في حياة الفلسطينيين إلا ونغّص عليه، سلبهم الحد الأدنى من القدرة على بناء اقتصاد حياة لا أكثر، وجرّدهم من أرضهم ومياههم وحقهم في الحركة حتى للتعامل مع مصدر رزقهم .
لم تعد فلسطين بلداً زراعياً يحقق أبناؤها الاكتفاء الذاتي غذائياً . كانوا يأكلون مما يزرعون، ويزوّجون أبناءهم ويغطّون تكاليف دراستهم من الزراعة . يتذكّر من هم فوق الأربعين تلك الأيام حيث كانوا ينامون في "العزبة”، ويتابعون ثمرة البطيخ منذ بروزها "زهرة”، إلى أن يتذوّقوا طعماً لا وجود له اليوم . يتذكّرون ثمار التين الملونة وطعمها السكّري الرائع، وكيف أن الثمار التي تسقط على الأرض كان يتم ترتيبها في مسطحات وتركها يومين لتتحوّل إلى قطّين . كان في كل قرية بيدر أو اثنان أو ثلاثة يجمع الفلاحون فيها حصاد القمح والشعير والعدس، ثم ترى المزارعين يتركون دوابهم تدور فوقها حتى تهرسها ثم يذرّونها ليطير القش جانباً وتسقط الحبوب وحدها عمودياً، فيبدو القمح مثل ذرات من الذهب اللامع تتساقط من مذراة المزارع وهو يغني للغلّة . اليوم تستطيع أية مؤسسة ان تعلن عن جائزة مجزية لأي بيت فلسطيني يقتني طاحونة القمح اليدوية التي كان الصغار ينامون على صوتها والأهازيج المرافقة لعملية الطحن من حناجر الأمهات . عند البحث في الأسباب نجدها موضوعية وذاتية، والنوعان مرتبطان بالاحتلال الذي منذ الأيام الأولى لاحتلاله الضفة الغربية، فتح سوق العمل أمام الفلسطينيين بأجور لم يعتادوا مثلها . هكذا ترك كثيرون أرضهم وهجروا زراعتهم أمام مغريات . بعد أن أبعد الاحتلال معظم الفلسطينيين عن أرضهم التي سلب مساحات واسعة منها، بات ومستوطنوه يلاحقون ما تبقى منهم لتخريب مزروعاتهم واقتلاع أشجارهم ونهب منتجاتهم تحت تهديد السلاح . الضفة الغربية تعوم على بحر من المياه الجوفية، لكنها تخضع لسيطرة الاحتلال، ولو فكر أي فلسطيني في حفر بئر ارتوازية، يحاكم كما لو ارتكب جرما إرهابياً، وفيما تعاني قرى وتجمعات سكنية انقطاعَ الماء لأشهر، يمر الفلسطينيون من أمام المستوطنات ويرون بأم أعينهم فيضانات المياه الجارية من غسل سيارات المستوطنين . لم يقف الأمر عند هذا الحد، فهذا الوضع شوّه الواقع الاجتماعي للفلسطينيين، فالمزارع الذي هجر أرضه وزراعته لم يعد فلاحاً ولا أصبح مدنياً، بل تداخل لديه الواقع المشوّه وأفرز تشوّهات تربوية أقلها تفكك الأسرة الواسعة وغياب الكثير من مظاهر التكافل الاجتماعي التي كان الفلسطينيون يفخرون بها . كان الابن معتمداً على أبيه وأسرته إلى حين يتخرّج في الجامعة ويتزوّج ويأخذ جزءاً من المنزل للسكن، وفي كثير من الأحيان يأخذ غرفة واحدة من المنزل ويعيش فيها راضياً قانعاً، أما العمل المبكّر في مصانع الكيان فقد ساعد على ترك الدراسة، وبات الفتى اليافع يحمل محفظة ويشعر بقدرته على الاستغناء عن أسرته .
اليوم، وبعد أربعة وستين عاماً على اغتصاب فلسطين، يغلق الاحتلال أبواب العمل أمام معظم الفلسطينيين الذين يشعرون بصعوبة العودة إلى الزراعة بسبب قوة العادة ومضايقات الاحتلال ومستوطنيه . وقد يحتاج الفلسطينيون إلى مزيد من القهر ليعرفوا معنى العودة إلى الأرض والتوسّل لأمهاتهم وزوجاتهم كي يمسكن رحى طاحونة القمح مرة أخرى .
المصدر: جريدة الخليج الإماراتية