فلسطينيو
العراق في سورية من شتاتٍ إلى شتات

بقلم:
محمد مشينش
مأساة
تتكرر فصولها، ومعاناة تتعدد أشكالها، ومن بلد إلى بلد، ومن حدود إلى حدود، ومن مدرسة
إلى مدرسة، لا يناضل فلسطينيو العراق لدحر احتلال أو لنيل حرية أو لنصرة مظلوم، بل
لتوفير سقف ينام تحته أبناؤهم ونساؤهم، أو لقمة خبز لشيخ كبير أو امرأة. لقد فقدوا
كل ما هو جميل ومفرح في ذاكرتهم. صرخاتهم ضاعت مع أصوات الرصاص وترتيب الأولويات وتقديم
الأجندات، وآهات دُفنت بين أنقاض المخيمات، وحناجر تنادي منذ سنين حتى بُحَّ صوتها.
كم
ناشدوا المفوضية أن تتخذ إجراءات طارئة لمثل هذه الظروف بصفتها المسؤولة عن حمايتهم،
منذ بداية الأحداث في سوريا قبل عام ونصف؛ فقد خبروا معنى تدهور الأوضاع الأمنية وإطلاق
العنان لفوّهات البنادق، وعرفوا مسبقاً أنهم سيكونون ضحايا لهذا التدهور؛ فلا جذور
لهم ولا نصير. وكان مطلبهم واحداً وواضحاً في أن يُجمَعوا في مخيم الهول في الحسكة
بعيداً عن الأحداث، ليكونوا آمنين هناك؛ فما عاد في أبدانهم لحم ليؤكل، وما عادت أجسادهم
تقوى على حمل المزيد، لكن دون جدوى. ورفضت المفوضية أن تستجيب لمطلبهم الشرعي المبنيّ
على فهمٍ لعمل المفوضية. اعتصموا أمام المفوضية بأسلوب حضاري وقدّموا ورقة تبيّن فيها
مطالبهم، وكان الرد بالتجاهل والإهمال وبإلصاق التهم وبثّ الأكاذيب وإصرار غريب من
مديري المفوضية على إغلاق مخيم الهول، رغم أن فيه بقية باقية من اللاجئين يسكنون فيه،
إضافة إلى ما يزيد على 1000 لاجئ مسجلين في مخيم الهول ويسكنون في مخيم اليرموك، بطلب
من المفوضية وبالتنسيق مع الأونروا. لم يستسلم اللاجئون الهاربون من بطش الميليشيات
وظلم الحكومة في العراق، وحاولت مجموعة منهم أن تكون على أرض مخيم الهول في الحسكة
شمال سوريا كأمر واقع وكحق لهم وكوضع إداري صحيح، لكن المفوضية رفضت وجودهم بحجة أنها
قررت إغلاق المخيم دون تقديم أي تبرير لأسباب قرار إغلاقه، وعرضت عليهم المال لأجل
أن يعودوا إلى دمشق، واستمر رفضهم حتى نجحت المفوضية في جلب ورقة من الجهات الرسمية
السورية تقول إن وجودهم في مخيم الهول سيكون غير شرعي، ما اضطرهم إلى العودة إلى مخيم
اليرموك ليكون وضعهم في مهب الريح. لم ينتظروا طويلاً حتى حصل ما كانوا يخافون منه،
فهاموا على وجوههم لا يعلمون أين يذهبون. هل يبقون في مخيم اليرموك، وقد غادره أهله،
أم يناشدون، أم يصرخون، أم يلعنون، أم يسبون؟
تدهور
الوضع في سوريا، ووصلت النار إلى مخيم اليرموك حيث فيه ما يقرب من ثلاثة آلاف من فلسطينيي
العراق، وحصل ما هو متوقَّع، ودخل فلسطينيو العراق في دوامة جديدة؛ فلا أوراق ثبوتية
لديهم، ولا وضع قانونياً يسندهم، ولا مكان آمناً يؤويهم، ولا قدرة لهم على التكلفة
المالية المضاعفة للعيش في سوريا في هذه الظروف.
ذهبوا
إلى المفوضية في كفرسوسة وسط العاصمة السورية دمشق مع أطفالهم ونسائهم وشيوخهم لإيجاد
حلّ لهم، حل يُوفّر لهم أدنى مقومات الحياة، وكان ردّ المفوضية بحلين غريبين: الأول
هو منح الأسرة مبلغ خمسة عشر ألف ليرة سورية، أي ما يعادل مئتي دولار تقريباً، على
أن يتكفل اللاجئ بمسؤولية حماية نفسه بنفسه. والحل الثاني هو إيجاد مدرسة لهم في منطقة
آمنة في هذه الأوقات، أي إنهم سينقلون عندما تكون هذه المدرسة غير آمنة غداً، ثم نعود
إلى الدوامة نفسها. حلول غريبة من جهة أممية مهمتها الرئيسية التي أُنشئت من أجلها
هي حماية اللاجئين، فكيف يُمنَح اللاجئ مبلغاً مالياً لتولي حماية نفسه بنفسه، وماذا
سيفعل بعد أن ينفد هذا المبلغ البسيط، أو بعد أن تسحب المفوضية موظفيها نتيجة سوء الأوضاع
الأمنية؟
صحيح
أن البلوى عامّة وشاملة في سوريا، وفلسطينيو سوريا ليسوا أفضل حالاً من فلسطينيي العراق،
لكن الاختلاف هنا أن فلسطينيي العراق لا جذور لهم في سوريا ولا يستطيعون الذهاب إلى
أي مكان، لا إلى لبنان، ولا إلى أي منطقة أخرى؛ فلا أوراق ثبوتية لديهم، ولا أقارب
يؤوونهم في المحافظات الأخرى، فضلاً عن أن الكلّ الآن مشغول بأهله وضيوفه، ولو كان
الأمر بيد الشعب السوري، لما تردد في استقبالهم، ولو تتبعنا مسيرة هذه العوائل، لوجدنا
أن بعضها قد هاجر وتشتّت للمرة الخامسة أو السادسة، ومن شتات إلى شتات ولا يزال مستمراً
في شتاته لا يعلم متى سترسو سفينته، وفي أي ميناء، وعند أي ركن من أركان الأرض؛ ففي
بغداد هُجِّروا مرات ومرات، ثم إلى الصحراء على الحدود العراقية السورية في مخيم الوليد
ومخيم التنف بين الحدين، ثم لينقلوا إلى مخيم الهول في الحسكة شمال سوريا، ثم إلى مخيم
اليرموك، ثم إلى مدرسة مؤقتاً، ثم إلى مجهول ينتظرهم.
آن
الأوان لأن تقوم المفوضية العليا لشؤون اللاجئين بواجبها، وأن تجد لهم مكاناً آمناً،
وأن تقيم لهم مخيماً جديداً يكون تحت إشرافها المباشر، يُرفَع عليه علم الأمم المتحدة
لكي يكون خارج دائرة الصراع. وهذا هو الحل القانوني والأمثل لفلسطينيي العراق الموجودين
في سوريا في هذه الظروف، وإلا فأين المفر؟ إلى عراق جديد ما زالت سكين جلادهم فيه تقطر
من دمائهم وما ارتوت، أم للبحث عن ركن في مدرسة بعيدة عن رائحة البارود؟ أم لحفر قبورهم
في إحدى زوايا مخيم اليرموك، ولسان حالهم يقول: "ما إلنا غيرك يا الله".
المصدر:
مجلة العودة، العدد الـ64