فلسطينيو العراق وسورية بين آذارين
محمد مشينش / اسطنبول
في آذار من عام 2003 أعطى الإرهابي بوش الابن إشارته
لبدء الحرب على العراق لاحتلاله. ومع هذا الحدث المؤلم الذي سجله التاريخ كأبشع حرب
تُشنّ على بلد من دون أي مسوّغ سوى الأكاذيب والأضاليل التي سيقت لأجل هذه الحرب الظالمة،
بدأت حقبة مظلمة في ت اريخ العراق، مع تغيير في بنية البلد السياسية.
ولأن القاعدة العامة تقول إن الفلسطيني أول الخاسرين مع أي تغيير سياسي
في الدول التي فيها فلسطينيون، فإن استهداف الفلسطينيين كان بعد شهر ونصف فقط من بداية
الحرب، ليُطرَد ما يقرب من خمسمئة عائلة فلسطينية من بيوته ا، وليجدوا أنفسهم في خيمة
على أرض ملعب نادي حيفا في بغداد في مخيم سمَّوه "مخيم العودة"، وليعيشوا
ما عاشه آباؤهم عام 1948، لكن هذه المرة ليس بيد صهيونية، بل بيد أحفاد ابن العلقمي،
لا لذنب اقترفوه إلا لأنهم فلسطينيون. ثم توالت المآسي والآلام حتى هاجر معظمهم وتشتتوا
إلى ما يزيد على أربعين دولة في العالم.
أما في سورية، وفي آذار أيضاً من عام 2011، ومع
أن الفرق كبير ولا تصحّ مقارنته في أسباب التغيير السياسي وعدالته بما حصل في العراق،
إلا أنه في النتيجة تغيير، وقاعدة استهداف الفلسطينيين العامة أبت الاستثناء، ورغم
التأخر في استهداف الفلسطينيين، إلا أنّ حُماة الديار لم يفوّتوا هذه الفرصة، ودخل
اللاجئون الفلسطينيون في دوامة الصراع.
ولأننا نتحدث عن سورية كساحة كبيرة من ساحات الوجود
الفلسطيني في محيط فلسطين، فإن الأمر يحتاج إلى وقفة؛ فإن كان ما حصل في العراق تجاه
اللاجئ ين الفلسطينيين هو بمثابة مختبر لإجراء التجارب عليهم، فإن الأمر في سورية هو
التطبيق العملي لأكثر المشاريع نجاحاً في استهداف اللاجئين الفلسطينيين الموجودين حول
فلسطين، وما نجم عنه من تغيير في ثقافة اللاجئين تجاه وجودهم في المنطقة ناتج من عدم
الشعور بالاستقرار ، وهو أخطر ما مرّ على اللاجئين من مشاريع، وهو ليس مشروعاً موجهاً
فحسب، بل هو حصاد ما سكتنا عنه وقبلناه من ثقافة للعودة ورثناها عن غيرنا ولم نكلّف
أنفسنا حتى التعديل عليها، ثقافة بنيت من الأساس على عدم استقرار اللاجئين في أماكن
لجوئهم الأول، أي إبقاء حالة اللا استقرار من أجل العودة إلى الديار. هذا هو الشعار
الذي رفع في الديار، ممنوع تملك بيت للسكن، ممنوع العمل، ممنوع الخروج من المخيم، ممنوع
ممنوع ممنوع، حتى طار اللاجئ الفلسطيني مع أول نسمات الربيع العربي إلى المجهول. صحيح
أنّ بعض هذه الممنوعات سقط مع طول فتر ة اللجوء؛ لأنه خالف الفطرة البشرية في السعي
إلى الاستقرار، لكن الثقافة البالية بقيت آثارها، وبقي اللاجئ الفلسطيني النقطة الأضعف
والورقة الأسهل للاستخدام؛ فبسهولة عادت الخيمة بعد أربعة وستين عاماً لتنصب في الصحراء
في المناطق الحدودية في مخيمات البؤس والذل، وبسهولة أُبعدت عن العيون، مع جرعة كبيرة
من الإهانات والمذَلة والحرمان والعجز وتكميم الأفواه ليكفروا بعدها بكل قيم الإنسانية.
أما من يتوجه إلى دول الجوار هرباً من الموت، فسيجد أمامه الكلمة السحرية في حياة اللاجئ
الفلسطيني: "ممنوع"؛ فممنوع أن تهرب من الموت، وكأن الموت يميز بين العراقي
والفلسطيني، أو بين السوري والفلسطيني، أو ربما هو الخوف من أن ينسى الفلسطيني العودة
إلى وطنه وإلى مقدساته! فهل سيحمل هذا بعد موته؟
تعرفنا إلى خطة دالت الصهيونية، وعرفنا كيف كان
يُقتل الفلسطينيون ويمثَّل بجثثهم وتخرَّب بيوتهم ويفس ح لهم المجال باتجاه واحد ليخرجوا
إلى الشتات. وها نحن الآن نعيش الخطة نفسها، لكن بأيدٍ مختلفة، مظهرها عربي، وباطنها
أصفر يحمل معه حقد أربعة عشر قرناً من الزمان. قتل في أماكن وجودهم، ومنع من دخولهم
لدول الجوار وحصرهم في مخيمات القهر على الحدود، وتقاعس من الأ مم المتحدة بشكل متعمد،
ثم بعد ذلك فتح المجال لهم للهجرة إلى أوروبا، التي سيجدون فيها الراحة والأمان والاحترام
والاستقرار، والأهم من هذا كله لن يجدوا من يبيعهم كلاماً عن الممانعة ويضربهم بالطائرات،
ولن يجدوا من يحتفل بيوم القدس بقصف المخيمات الفلسطينية، ولن يجدوا من يقول لهم إنكم
لاجئون فلسطينيون يجب أن لا تسكنوا البيوت ولا تشتغلوا ولا تطوروا أنفسكم، ويجب أن
تعيشوا تحت سقوف الزينكو؛ فهي طريق المحافظة على القضية. بلا شك، إن كلامي ليس مدحاً
للأنظمة الأوروبية التي تريد أن تسدّ العجز البشري الحاصل في دولها وأن ت ُسهم في حل
مشكلة الشرق الأوسط استجابة للمطالب الأميركية و"الإسرائيلية"، أو حسب فهمها
للقضية الفلسطينية بحسن نيات أو دونها، بقدر ما هو تشخيص وذكر لحقائق نعيشها على الأرض
ربما تجاوزها البعض بحجة السلبية، وأنا أسميها ثقافة العجز ودسّ الرأس في التراب هرباً
من مواجهة المشاريع المضادة لعودة الفلسطينيين وتمسكهم بحقوقهم في وطنهم.
هذا هو أخطر ما نتج من استهداف الفلسطينيين في سورية
وقبلهم في العراق، ثقافة البحث عن الاستقرار بعيداً عن منطقة التغييرات السياسية وما
ينتج منها من السير نحو المجهول، وفي أي بقعة من بقاع الأ رض تضمن للاجئين مستقبل أولادهم
وتضمن لهم العيش بأمان، دون النظر إلى أي بعد سياسي أو ضرر قد يتحقق في ارتباطهم بالقضية
ككل.
ثقافة الارتباط الحقيقي للاجئ الفلسطيني بوطنه فلسطين
يجب أن تنبع من منهج ديني عقدي يجعل العودة إلى فلسطين وتحقيقها أمراً من أوامر الشر
ع وضروراته، وهو ما كان يجب أن يُبنى عليه فكر العودة منذ أن اقتُلع الفلسطينيون من
ديارهم عام 1948؛ فنحن نتكلم على مقدسات، لا على برتقال أو زيتون، نتكلم على أرض وقف
إسلامي، لا على حدود سايكس بيكو، نتكلم على أوامر نبوية بالمحافظة على هذه الديار،
لا على تراث ا لكوفية والدبكة، على أهميته، لكن وفق الأولويات.
وعندما نرتبط عقدياً بالموضوع، فإن كل مسلم سيشترك
معنا في هذا الواجب، ولن يكون هناك استهداف مباشر للاجئين الفلسطينيين، ولن تعدّهم
الدول العربية تهديداً لأمنها القومي.
بناءً عليه، صار رفع شعار استقرار اللاجئين حول
فلسطين لحين عودتهم أمراً ملحّاً، وهو أهم درس يمكن الاستفادة منه مما حصل مع فلسطينيي
العراق ومع فلسطينيي سورية. ومن أهم عوامل الاستقرار، بناء منظومة لحماية اللاجئين،
تبدأ من إعادة النظر في ثقافة العودة وبنائها وفق ما يمليه علينا ديننا الحنيف، ثم
يلي ذلك صياغة قوانين تحقق الاستقرار القانوني للاجئين في دول ملجئهم الأول، مروراً
بتحقيق تواصل حقيقي مع هيئات الأمم المتحدة ذات الصلة لأجل وقوفها عند مسؤولياتها،
وانتهاءً برفع قضايا ضد كل من استهدف اللاجئين في العراق وسورية. فمن غير المعقول أن
يسفك الدم الفلسطيني بهذه السهولة من دون أن يكون هناك ردّ فعل.
أما الزاوية الأخرى التي يجب الوقوف عليها في أزمة
فلسطينيي سورية، فإن الكل يعلم أنّ سورية كانت بؤرة العمل الفلسطيني في الشتات، وما
حصل في سورية ستنتج منه حالة تراجع في دور الشتات الفلسطيني، وهو ما يستوجب أن تفعّل
ال ساحات الأخرى للوجود الفلسطيني، فما عاد مقبولاً حالة التضييق الحاصلة على الفلسطينيين
وعلى أنشطتهم، وخصوصاً أن فسح المجال للأنشطة الفلسطينية يعزز من ثقافة العودة إلى
فلسطين، لا البقاء في الدول التي يقيمون فيها. ولعلنا هنا نتساءل عن الوجود الفلسطيني
الكبير في الأردن أو في الخليج العربي وعن أنشطته التي آن الأوان لأن تفعل من جديد
وتعود إلى سابق عهدها لتعوض التراجع المتوقع في دور الشتات الفلسطيني، وخصوصاً في هذه
المرحلة التي يدور الكلام فيها حول انتخاب المجلس الوطني ومنظمة التحرير، وهو ما يهمّ
الشتات الفلسطيني كث يراً ويحدد دوره المستقبلي في قضيته.
المصدر: مجلة العودة، العدد السادس والستون