في السؤال عن الفصائل الفلسطينية في
"انتفاضة القدس"
بقلم: ساري عرابي
منذ أن بدأت الحالة الكفاحية الفلسطينية الراهنة
في الأول من تشرين أول الحالي، والحديث لا يكاد ينقطع عن الفصائل الفلسطينية، في
ثلاث صور رئيسية: نفي أي دور للفصائل، دعوة لإبعاد الفصائل، السؤال عن سبب غياب
الفصائل، مع تأكيد مثير على شبابية "الهبّة- الانتفاضة"، وكأن أي
انتفاضة فلسطينية لم تكن، في عمودها الفقري وقوّتها الرامية، شابّة! وكأن جيل
الانتفاضة الأولى لم يوصف بـ "أطفال الحجارة"، أو كأن من سيّر المظاهرات
الأولى في الانتفاضة الثانية لم يكن طلبة الجامعات! هذا مع أن الأحداث الجارية،
وبالفعل، لم تتسع بعد لاستغراق بقية الشرائح العمرية لأسباب تحتاج بسطًا مستقلاً.
بصرف النظر عن السياقات التي تنتج تلك الأسئلة،
المفتقرة، في دوافعها لدى البعض، إلى الوعي الموضوعي والتاريخي بأعمار رأس المال
الفعلي لأي فعل مقاوم، والمفتقرة أيضًا إلى الوعي الموضوعي والتاريخي بأوضاع الضفة
الغربية، فإن أول ما ينبغي الوقوف عليه حين مناقشة هذه الموضوعة، هو تحديد الفصائل
المقصودة حين السؤال عن أو التأكيد على غيابها، إذ أن اللائحة الفلسطينية تضم
فصائل لا وجود لها في الواقع لا من جهة الحجم ولا من جهة التأثير، وهي تلك الفصائل
التي دأب بعض الفلسطينيين على وصفها بالميكروسكوبية، بالرغم من أن هذا الوصف غير
دقيق بالنّظر إلى أنها منعدمة الحجم والتأثير، حتى لو كانت ممثلة في اللجنة
التنفيذية لمنظمة التحرير، أو كانت جزءًا من تاريخ الحركة الوطنية.
حين الأخذ بهذه الحقيقية الموضوعية بعين
الاعتبار، فإنه لا يمكن الحديث في الضفة الغربية على وجه الخصوص، إلا عن أربعة
فصائل، هي حماس وفتح والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية، وحين معالجة حضور هذه
التنظيمات الأربعة في الضفة الغربية، يتبين الفارق الهائل من حيث الحجم التنظيمي
والتأييد الشعبي بين حماس وفتح من جهة، والجهاد الإسلامي والشعبية من جهة أخرى،
بالرغم من الدور الكبير لحركة الجهاد الإسلامي في مسيرة النضال الفلسطيني تاريخيًا
وراهنًا، وحضوره الواضح في قطاع غزة، ثم بدرجة تالية وبمسافة أبعد تأتي الجبهة
الشعبية من حيث الدور الراهن، دون أن نغفل أن الشهيد مهند الحلبي، أحد مفجري هذه
الهبّة العظيمة، ينتمي لحركة الجهاد الإسلامي، حتى لو جاءت عمليته بدافع فردي.
قبل البحث في دور كل من حماس وفتح، لا بد من
البحث في الواقع التنظيمي في الضفة الغربية والذي يتسم تاريخيًا بضيق القاعدة
التنظيمية عمومًا بالقياس إلى قطاع غزة، دون أن يعني هذا أن الجمهور الفلسطيني في
الضفة الغربية لا يملك انحيازات سياسية تظهر بالتأييد الجماهيري للفصيلين الكبيرين
أو بالانتخابات المختلفة، لكن ذلك لا يعبر عن الأجسام التنظيمية (عدد العناصر
المنظّمة والفاعلة)، الأمر الذي يجعل من مهمة أي فصيل فلسطيني مقاوم في الضفة
الغربية بالغة الصعوبة في استيعاب الضربات ومواجهة عمليات الاستئصال والحدّ من
الاستنزاف سواء في سياق المواجهة المباشرة مع العدو، أو في سياقات الانقسام وأدوار
السلطة الفلسطينية.
هذا ينطبق على حماس التي تعرّضت لعمليات استئصال
عميقة وممنهجة في السنوات الثمان الأخيرة، وصلت في بعض مراحلها إلى حدّ تفكيك
بناها التنظيمية في كامل الضفة الغربية، ومحاصرتها في كل أشكال النشاط العام
والخاص، وقد انعكس ذلك على مجمل الحالة الوطنية في الضفة الغربية، فإذا كانت حركة
فتح قد تماهت مع مشروع السلطة الفلسطينية، في وقت تراجعت فيه بقية فصائل منظمة
التحرير إلى مستوى العدم، فإن استهداف أكبر حركة مقاومة فلسطينية، وحرمانها من كل
مساحات النشاط العام، سوف يمسّ بالضرورة الوعي الوطني وإرادة المقاومة لدى المجتمع
الفلسطيني المستهدف بدوره بعمليات الإغراق الاستهلاكي وخلط الأجندات وهندسة الوعي
وإنتاج الفلسطيني الجديد، فضلاً عن شلّ قدرة الحركة على التنظيم والتأطير والتعبئة
لتعتمد بشكل أساسي على حركتها الطلابية الجامعية كما كان عليه الحال عقب تأسيس
السلطة الفلسطينية وقبل الانتفاضة الثانية، فقد أخذت الحركة وقتًا كي تستعيد
عافيتها مستفيدة من الظروف التي أوجدتها انتفاضة الأقصى وامتدت في غزة وانقطعت بعد
ذلك في الضفة الغربية.
بالرغم من ذلك، حاولت حماس بعافيتها المنهكة
الدفع نحو استنهاض الضفة الغربية طوال السنوات الماضية التي تلت الانقسام، سواء
بالفعاليات التنظيمية الجماهيرية، وبالفعاليات المتعلقة بالقضايا الوطنية العامة،
كالقدس والمسجد الأقصى والأسرى والحرب على غزة، أو بعمليات المقاومة التي تمكنت من
تنفيذها أو جرى إحباطها، بحسب مصادر العدو التي تعلن وبشكل متواصل عن اعتقال
العديد من المجموعات لحركة حماس.
من تلك العمليات التي تمكّنت حماس من تنفيذها،
ويمكن اعتبارها من جملة العوامل التي ساهمت في مراكمة الفعل النضالي خلال السنة
الأخيرة، عملية أسر المستوطنين الثلاثة في الخليل في حزيران من العام الماضي والتي
دفعت الأحداث حتى وصلت ذروتها بالهبّة التي تلت حرق الطفل محمد أبو خضير وبالحرب
على غزة وبتصاعد الأعمال المقاومة في القدس والضفة الغربية في شهر تموز من ذلك
العام، وكذلك العملية التي نفدت في حزيران من هذا العام، واعتقل بعد ذلك منفذوها
لدى السلطة والاحتلال، وأخيرًا عملية بيت فوريك "إيتمار" التي شكلت
الشرارة الأولى لهذه الأحداث الجارية.
تدرك حماس أن دورها الطبيعي كحركة مقاومة هو
الالتحام بأي حالة كفاحية، مهما كانت سياقاتها واحتمالات مآلاتها، إذ لا يمكن
لحركة المقاومة إلا أن تنسجم مع نفسها، وقد أثبتت التجربة التاريخية للشعب
الفلسطيني أن الثورة والانتفاضة والكفاح المسلح هي الإيديولوجيا الضمنية للشعب
الفلسطيني، والرافعة لأي فصيل فلسطيني، كما أن هذه التجربة ذاتها أثبتت، وخاصة
فيما تعلق بالنضالات داخل الأرض المحتلة، أن اللقاء على أرض المعركة وحده الذي
يذوّب التناقضات الداخلية في إطار التناقض الرئيسي مع العدو الصهيوني، وبما يخلق
لأي فصيل مقاوم الفرصة للتعافي ولملمة الصفوف، على الأقل بالتخلص من أسباب
الملاحقة الداخلية، كما حصل نسبيًا ومؤقتًا في الانتفاضة الثانية.
ومن هنا تتبين دعوات حماس الرسمية والعلنية في
محافظات الضفة للخروج بالمظاهرات من المساجد، والدور الذي يقوم به الذراع الطلابي
الجامعي لحماس، وفي إطار الحركة الطلابية عمومًا، في محاولة خلق مناخ انتفاضي دائم
في الضفة الغربية، بما يذكّر بدور ذات الذراع في هبّة النفق أو في الانتفاضة
الثانية حينما نظّم ومع بقية الأطر الطلابية أولى المسيرات التي توسعت عنها لاحقًا
الأحداث، وبما يذكّر وبما هو أبعد بالمساهمة التاريخية للحركة الطلابية في تفجير
الانتفاضة الأولى، وفي كون تلك الظروف شكّلت الإرهاصات الجدية لانخراط الحركة
الإسلامية في المواجهة المباشرة والعنيفة مع الاحتلال، دون أن يعني ذلك أن الدور
الطلابي يقتصر على الأطر التي تتولى بشكل أساسي التحشيد والتعبئة و"تعليق
الدوام" وترتيب الزحف لتشترك كل الشرائح الطلابية بعد ذلك في المواجهات.
بالنسبة لحركة فتح، أصابها الارتباط العضوي
بمشروع السلطة الفلسطينية، وبناء شبكة مصالح متعلقة بهذا المشروع، وبما يقتضيه ذلك
من اجتراح خطاب وممارسة تنسجم مع أجندات السلطة وأدوارها ومفرداتها، وبالتحديد من
بعد رحيل ياسر عرفات ثم الانقسام؛ بحالة من الترهّل التنظيمي والكساح النضالي على
المستوى الرسمي وبما ينعكس على البنية العامة، ويحول دون القدرة على اتخاذ القرار
الصحيح في الوقت الصحيح في مثل هذا الموقف، وبما يخالف الطبيعة الفتحاوية
التاريخية، التي تمثلت في السبق إلى الكفاح المسلح والانخراط في أي انتفاضة
فلسطينية، بل واتخاذ قرار المواجهة المعلنة كما حصل في هبّة النفق.
وبالرغم من ذلك فإن قواعد الحركة الشابّة لا
تستنكف عن المشاركة في المواجهات، سواء عبر حركة الشبيبة الطلابية أو تنظيمات
الحركة في الأقاليم، أو بدوافع ذاتية صرفة، وحتى بتنفيذ العمليات الفردية كبقية
أبناء الشعب الفلسطيني، وهذا الدور في هذه الحدود تبقى احتمالات تصاعده وتعاظمه
قائمة، وتجاوز فتح لأوضاعها الراهنة نحو التحام أكثر جدية وجذرية بالحالة الكفاحية
القائمة من شأنه أن يدفع بها إلى الأمام، أيًا كانت المخاوف من طريقة الاستثمار
الفتحاوي المجرّبة لنضالات شعبنا.
لقد كانت كل الانتفاضات والهبّات والثورات
الفلسطينية أكبر من التنظيمات، ولكن استمرارها كان دائمًا بفعل التنظيم الذي
يمنحها القدرة على الاستمرار، وهذه الهبّة وإن امتلكت ظروف استمرار خاصة وعفوية في
القدس على وجه الخصوص، فإن خلق المناخات الانتفاضية في الضفة قائم ببعض الجهود
المنظّمة بشكل أساسي، والتي يبدو أنها لا تزال أضعف من أن تنقل الأحداث نقلة أكبر
إلى الإمام، بتحويل المناخ الانتفاضي من مداخل المدن إلى الانتشار الأوسع في كل
الأرياف وبما يزيد في استنزاف العدو وإرهاقه وتشتيت قواه.