القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الخميس 28 تشرين الثاني 2024

في جذور أزمة المقاومة الفلسطينية

في جذور أزمة المقاومة الفلسطينية

بقلم: ساري عرابي

تعود جذور أزمة المقاومة الفلسطينية إلى العلاقة القائمة على التناقض الحتمي بين الدولة العربية الناشئة على الحدود الكولونيالية بما استدعته من هويات وطنية مستحدثة على أساس تلك الحدود، وبين المقاومة الفلسطينية منذ نشأتها بما هي تعبير عن هوية فلسطينية خاصة ناشئة في صورة مختلفة تمامًا عن صورة تشكل الهويات الوطنية في المجال العربي المجاور، وإن كانت أيضًا قائمة على أساس كولونيالي، وهي ومن جهة فرادتها هذه تعبير عن رفض الفلسطيني للثمن الباهظ الذي دفعه لأجل تتميم إجراءات الدول الاستعمارية الكبرى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، والتي انتهت إلى منح الدول العربية المستحدثة على أساس الخريطة الاستعمارية استقلالها مقابل منح اليهود "وطنًا قوميًا" لهم في فلسطين.

تشكلت الهويات الوطنية لشعوب المشرق العربي، ولا سيما في منطقة بلاد الشام الكبرى، على مرحلتين؛ تمثلت الأولى منهما في اقتسام المنتصرين في الحرب العالمية الأولى لتركة الدولة العثمانية، وما تبعه من إعادة ترسيم للجغرافيا أوجد نمطًا دولانيًا داخل كل وحدة سياسية مستحدثة اسعماريًا، انبنى عليها ترسيم جديد للتاريخ ابتدع سرديات كبرى لتدعيم الهويات الجديدة، وتمثلت الثانية في استقلال هذه القطريات التي نشأت داخل ذلك المهد، وعلى أساس من تلك الوحدات السياسية الدولانية المرعية من طرف دول الانتداب، وفي المقابل تشكلت الهوية الوطنية الفلسطينية على أساس من النكبة، التي هزم فيها عرب الوحدات السياسية الجديدة لا الفلسطينيون الذين لم يملكوا دولة ولا جيشًا، وبهذا تشكلت الهوية الفلسطينية على استمرار الاستعمار في فلسطين في مقابل استقلال الوحدات السياسية العربية من جهة، وعلى هزيمة الجيوش العربية في العام ١٩٤٨ من جهة ثانية.

تجسدت الهويات العربية الجديدة في صورة الاستقلال، بينما تجسدت فلسطينيًا في صورة النكبة، وهذه المفارقة هي التي صاغت أزمة النضال الفلسطيني بنيويًا وتاريخيًا، إذ فجأة وجد الفلسطينيون أنفسهم لاجئين أجانب على أرض كانوا من أهلها حتى الأمس، فحتى ما قبل الاستعمارين البريطاني والفرنسي كانت مدن بلاد الشام متداخلة في تنظيم إداري واحد، فمثلاً كانت بعض مدن وبلدات شرق النهر تتبع مدنًا في فلسطين تتبع بدورها ولاية سورية أو ولاية بيروت، وهكذا.

لقد تزامنت النكبة مع استقلال الوحدات السياسية العربية الجديدة، ووجد الفلسطينيون أنفسهم مضطرين للقتال انطلاقًا من تلك الأرض التي باتوا لاجئين أجانب عليها بعدما كانوا من أهلها، خاصة وأن التفوق العددي الكاسح للعدو من بعد النكبة الأولى وقبل النكبة الثانية لم يكن ليسمح بخوض حرب مقاومة طويلة من داخل فلسطين على غرار الثورة الجزائرية، بينما كانت الضفة الغربية تتبع الحكم الهاشمي الأردني، وغزة تتبع الإدارة المصرية، ولم يكن ممكنًا استخدامهما كقواعد آمنة دون دعم وإسناد من الأردن أو مصر وهو ما خلق التناقض الحتمي بين المنظومة العربية والمقاومة الفلسطينية. وبعد النكبة الثانية في العام ١٩٦٧لم يعد ممكنًا خوض مقاومة طويلة ومستمرة من داخل الأراضي المحتلة عام ١٩٦٧ لضيق المساحة الجغرافية الخاضعة للاحتلال المباشر، والقادر على إدارة عمليات استنزاف يومية للمقاومة تنتهي إلى شلها.

أحبطت آمال الفلسطينيين المعلقة على محاولات استنساخ الثورة الجزائرية، ثم على محاولات استنساخ الثورة الفيتنامية، فلا "هانوي" فلسطينية، ولا "هانوي" عربية، ولم يكن وجود الثورة الفلسطينية في الأردن ثم في لبنان، إلا وجودًا مؤقتًا وعابرًا، كنتيجة مباشرة لهزيمة العام ١٩٦٧، والتي كانت وللمرة الثانية، هزيمة للوحدات السياسية العربية لا للفلسطينيين الذين لم يتمثلوا أبدًا في وحدة سياسية داخل أرضهم، ثم كنتيجة لتوازنات ما إن تغيرت حتى انتهى الوجود القتالي الفلسطيني على الأراضي العربية، وإلا فإن هذا الوجود كان هشًا في أصله، وبقي ممتنعًا منذ نشوء المقاومة الفلسطينية وحتى هزيمة العام ١٩٦٧، وهو ما تبينه مثلاً مذكرة "فتح" المرسلة إلى مؤتمر القمة العربي الثالث في ٧ أيلول ١٩٦٥ وتطالب فيها بالكف عن ملاحقة "قوات العاصفة" في مختلف الدول العربية المجاورة وغير المجاورة لفلسطين، وإطلاق سراح المعتقلين، وإلغاء الحظر المفروض على نشر أخبار المقاومة الفلسطينية.

فحتى هزيمة العام ١٩٦٧ اعتبرت المقاومة الفلسطينية نقيضًا لمشروع بناء الوحدات السياسية العربية المستحدثة بكل تلاوينها بحسب تصنيفات ذلك الزمن ما بين رجعية وتقدمية. وبعد الهزيمة الثانية، نظر النظام العربي، ولا سيما الناصري منه، إلى المقاومة الفلسطينية كورقة يمكن استخدامها لتنفيذ برنامجه المتمثل في إزالة آثار العدوان على قاعدة الحل السلمي، ومن هنا رفعوا شعارهم الطريف: "من حقنا أن نقبل التسوية السلمية ومن حق الفلسطينيين أن يرفضوها"، وكأن قبولهم للتسوية السلمية وما يترتب عليها من التزامات لن يفاقم من تناقض المقاومة الفلسطينية معهم إلى الدرجة التي تؤدي إلى شل المقاومة ثم إنهائها تمامًا.

لم تكن مشكلة الوجود الفلسطيني في الأردن ثم في لبنان ناجمة في الأساس عن تجاوزات الثورة الفلسطينية الفادحة، والشعارات اليسارية الطفولية التي رفعتها بعض المنظمات الفلسطينية ثم أتبعتها بممارسات خرقاء عظمت في بعضها من ذرائع الدولة العربية في سعيها لإنهاء ظاهرة المقاومة، وعزلت في بعض آخر المقاومة عن حواضنها الشعبية العربية، ولكن ورغم أهمية ممارسات الثورة كعامل مؤثر في وجود المقاومة في البلاد العربية عمومًا، فإنه لم يكن العامل التأسيسي، إذ بدأت المشكلة من طرف الدولة العربية قبل أن تتحول الثورة الفلسطينية إلى سلطة موازية للدولة العربية التي تعمل على أرضها، بينما تحولت الثورة إلى سلطة موازية بالتدريج لحماية نفسها، ثم حينما أنهت وجودها كسلطة موازية كانت في الواقع تتيح للدولة العربية إنهاء وجودها كثورة، ولم يكن خروجها من لبنان سببًا كافيًا لإنهاء الحرب الأهلية التي لم يبدأها الفلسطينيون على أية حال.

إن تناقض الدولة العربية مع المقاومة الفلسطينية هو تناقض جوهري، ولا يقتصر على شكل المقاومة كوجودها في البلاد العربية مثلاً، فقد تواطأت المنظومة العربية على إعادة اجتياح الضفة الغربية وحصار ياسر عرفات وقتله، وقدمت أثناء الانتفاضة الثانية مبادرة تصفوية للقضية الفلسطينية استخدمت كمعيار في تحديد شكل العلاقات مع القوى الفلسطينية، ولم يعد كافيًا شعار: "من حقنا أن نقبل التسوية السلمية ومن حق الفلسطينيين أن يرفضوها"، بل صار القبول بالمبادرة العربية شرطًا لاستئناف بعض الدول علاقتها بحركة حماس، وفي حين تمكنت حركة حماس من إقامة قاعدة للمقاومة داخل فلسطين في قطاع غزة، فإن الدول التي تآمرت على هذه الحالة الفريدة بما مثلته من إنجاز فلسطيني بليغ لم تقتصر على دولة جوار غزة وحسب، بل تشترك فيها دول عربية لا تجاور غزة، وبعضها لا يجاور فلسطين كلها، بينما كشفت الدول التي دعمت المقاومة أن حسابات النظام، لا الدولة فقط، مقدمة على ضرورة المقاومة الفلسطينية.

فالمشكلة عربيًا في أن مجرد وجود مقاومة فلسطينية، حتى لو كانت داخل فلسطين، يتناقض مع السردية العربية المصطنعة استعماريًا، كما أنها، أي المقاومة بتعبيرها عن استمرار القضية الفلسطينية، لا تذكر فقط بالمسؤولية العربية عن تضييع فلسطين وبالتالي المسؤولية العربية عن استرجاعها، ولكن تذكر بشقاء الضمير العربي حينما كانت فلسطين في جانب ما ضحية استقلال العرب، وبعد ذلك ضحية أوهامهم. ولأن هذه المشكلة لا ترتربط بالأنظمة العربية القائمة وإنما بالوعي العربي المشوه، بما في ذلك وعي الثائرين على هذه الأنظمة، فإن من مظاهر العدل اللافتة أن العرب لن ينالوا حريتهم ولا نهضتهم دون تحرير فلسطين.

المصدر: المركز الفلسطيني للإعلام