القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الخميس 28 تشرين الثاني 2024

في ذكرى النكبة: تحرير سيناء فريضة مؤجلة

في ذكرى النكبة: تحرير سيناء فريضة مؤجلة

بقلم: فهمي هويدي

لا أرى سبيلا لإحياء الذكرى الخامسة والستين للنكبة التي حلت بفلسطين (في 15/5/1948) إلا بالدعوة إلى المطالبة بتحرير سيناء، لأن الصلة وثيقة بين الاثنين.

(1)

هذا المنطوق يحتاج إلى شرح. لذلك أرجو ألا يسارع أحد إلى تأويله أو استخلاص رسالته قبل أن أوضح ما عنيته. إذ قد يستغرب البعض إذا علموا أنني استلهمت فكرته من حديث الفريق أول عبدالفتاح السيسي وزير الدفاع إلى رجال الجيش الإعلاميين الذين شهدوا يوم السبت الماضي 11/5 ختام ما سمي «إجراءات التفتيش» لأحد التشكيلات المدرعة بالمنطقة المركزية، إذ ذكر أن تطوير الوحدات والتشكيلات ورفع معدلات كفاءتها القتالية يتم بمعدلات غير مسبوقة، بما يضمن لها القدرة على مجابهة التحديات والوفاء بالمهام المكلفة بها في حماية الوطن.

كنت أحد الذين دعوا في كتابات منشورة إلى الكف عن الإلحاح غير المسؤول على دعوة الجيش إلى التدخل والانقلاب على الشرعية. ومن بين ما قلته إن جيش مصر الآن يخضع لعملية إعادة بناء شاملة، تستهدف استعادة عافيته وتجديد شبابه، لكي يصبح جيشاً وطنياً محترفاً يليق بدولة كبيرة مثل مصر.

هذا الاهتمام بعافية الجيش المصري لا ينطلق فقط من إدراك لاستراتيجية المصلحة الوطنية المصرية فحسب، ولكن أية قراءة للمشهد العربي تؤيد بشدة تلك الرؤية، خصوصاً بعد تدمير الجيش العراقي وإنهاك وتدهور أوضاع الجيش السوري، الأمر الذي يجعل رفع الكفاءة القتالية للجيش المصري مطلباً عربياً ضرورياً وملحاً.

(2)

في تقرير «مدار» الاستراتيجي الذي صدر هذا العام عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية في رام الله أن إسرائيل لا تزال قلقة للغاية من تغير الأوضاع في مصر. وتخشى من أن يمس ذلك التغير معاهدة كامب ديفيد التي تعتبرها كنزاً استراتيجياً لا تعوض. وهي تعتبر أن مرور عام 2012 بسلام ومن دون أن يتعكر صفو العلاقات مع مصر إنجازاً مهماً. وفي ظل النجاح الذي حققته إسرائيل على ذلك الصعيد فإنها استثمرت أجواء الربيع العربي لتجعل من عام 2012 «ربيع الاستيطان». إذ ضاعفت في ذلك العام مشروعاتها الاستيطانية أربعة أضعاف ما كانت عليه عام 2011.

يتحدث التصوير الاستراتيجي عن التقديرات الأمنية الإسرائيلية التي تجمع على أن مصر بعد ثورة «25 يناير» 2011 سوف تختلف حتماً عنها قبل ذلك التاريخ، الأمر الذي يفرض على الدولة العبرية أن تكون مستعدة للتعامل مع مختلف الاحتمالات. ومن حيث المبدأ فإنها تعتبر الانسحاب من معاهدة «كامب ديفيد» خطاً أحمر لا تستطيع أية حكومة إسرائيلية أن تسمح بتجاوزه. ولديها الخطط اللازمة لمواجهة الاحتمال الأسوأ. ويعد ارتهان شبه جزيرة سيناء لمصلحة إسرائيل أحد المفاتيح التي تقبض عليها وتلوح بها بين الحين والآخر للضغط على مصر وابتزازها. والمتواتر في الدوائر السياسية أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لوح بورقة سيناء في اتصال هاتفي له مع الرئيس الأميركي حين صرح الدكتور نبيل العربي عندما كان وزيراً للخارجية بعد الثورة بفكرة فتح معبر رفح أن فلسطين غزة.

في هذا الصدد لا مفر من الاعتراف بأن الوضع في سيناء يشكل نقطة ضعف أساسية في الموقف المصري بعد الثورة، جعلت مصر في موقف حرج كبَّلها بوضع شاذ يمس سيادتها ويهدد أمنها القومي، وهو ما ينال من كرامة البلد في حين ثار شعبه وضحى بشهدائه لكي يصونها ويدافع عنها.

لم يعد مقبولا أن تمزق سيناء إلى ثلاث مناطق يتفاوت فيها ضعف الوجود العسكري المصري، ومن المخزي أن يعبر القناة في حرب 1973 حوالي 80 ألف جندي وألف دبابة، ثم يوافق الرئيس السادات بعد «النصر» على سحبها جميعاً غرب القناة في اتفاق فض الاشتباك، باستثناء 7 آلاف جندي و30 دبابة فقط لا غير.

وما عاد مقبولا أن يحظر على مصر إنشاء أي مطارات أو موانئ عسكرية في كل سيناء، ومن المحزن والمريب أن تقف أقرب دبابة إسرائيلية على بعد ثلاثة كيلو مترات من الحدود المصرية، في حين أن أقرب دبابة مصرية تبعد 150 كيلو متراً عن نفس النقطة.

هذا بعض ما نبهت إليه الدراسة التي أعدها المهندس محمد سيف الدولة المختص بالموضوع، والتي نبه فيها أيضاً إلى وجود القوات الأجنبية التي تقودها الولايات المتحدة في سيناء، ولا يجوز لمصر أن تطالب بانسحابها إلا بعد موافقة جماعية من الأعضاء الدائمين بمجلس الأمن.. وتلك القوات تتبع حلف الأطلنطي وقوامها 2000 جندي، وهي تراقب مصر أساساً في حين أن هناك 50 شخصاً مدنياً يراقبون الجانب الإسرائيلي.

التفاصيل كثيرة في هذا الملف، وكلها تجمع على أن الوضع في سيناء يمثل وصمة فرضت على مصر ثغرة في جدار أمنها القومي المصري، يجب ألا يستمر السكوت عليها بعد الثورة، ويتعذر التعامل معها إلا بعد أن تستعيد مصر عافيتها السياسية والعسكرية.

(3)

من سخريات الأقدار ومفارقاتها أن الرأي العام المصري جرى تشويهه خلال العقود الأخيرة، إذ نجحت أبواق الرئيسين السابقين السادات ومن بعده مبارك في قلب الصورة ومسخها في سيناء، بحيث أقنعت كثيرين بأن الخطر على سيناء يتمثل في الفلسطينيين لا الإسرائيليين. وثمة شائعة راجت في مصر تدّعي أن الفلسطينيين يطمحون في التمدد في سيناء والاستيطان بها، بحيث تضم إلى قطاع غزة في نهاية المطاف. وينسى هؤلاء ثلاثة أمور أساسية هي:

إن الرئيس جمال عبدالناصر كان قد طرح الفكرة في عام 1953، حين كان يحسن الظن بالأميركيين، وتصور أنهم سوف يساعدونه في توطين الفلسطينيين في شمال غرب سيناء، وثمة تقرير بهذا الخصوص نشره الباحث الفلسطيني حسن أبوالنمل في كتاب أصده مركز أبحاث منظمة التحرير سنة 1978 وذلك التقرير أعده المجلس الدائم لتنمية الإنتاج القومي في مصر بالتعاون مع وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينين، وهو مطبوع بتاريخ 28 يوليو 1955. وقد نبهني إليه الباحث الفلسطيني المخضرم عبدالقادر ياسين الذي عاصر تلك المرحلة. وهو يذكر أن الفكرة لقيت معارضة شديدة من الفلسطينيين آنذاك، وأن وفداً منهم ضم ممثلين عن الإخوان والشيوعيين والمستقلين جاء للقاء الرئيس عبدالناصر وأقنعه بالعدول عن الفكرة.

إن الإسرائيليين احتلوا سيناء مرتين، بعد عدوان 56 وبعد حرب 67، وأمضوا هناك نحو 15 عاماً، كانت الحدود خلالها مفتوحة بين غزة وسيناء، وكان من اليسير للغاية على الفلسطينيين أن يتمددوا في سيناء ويستوطنوا فيها، ولكنهم لم يفعلوا رغم أنه لم يكن هناك عائق يحول دون ذلك. وظلوا متمسكين بالبقاء في بلادهم وعلى أرضهم التاريخية.

إن فكرة توطين الفلسطينيين بصفة دائمة في سيناء مصدرها إسرائيل ولم ترد في أي مشروع أو مخطط فلسطيني. والباحثون الأكاديميون يعرفون جيداً أن الساسة الإسرائيليين طالما تمنوا أن يحلوا مشكلتهم مع الفلسطينيين عبر نقلهم إلى أي مكان في الكرة الأرضية. وإذا كانوا قد رشحوا لذلك بعض دول أميركا اللاتينية، فلا ينبغي أن يستغرب منهم أن يرشحوا سيناء أيضا، باعتبارها أقرب من الناحية الجغرافية، فضلا عن أنها تتسع لهم ويمكن أن تستوعبهم بسهولة.

(4)

ضعف مصر هو المشكلة، إذ بسببه لم تستطع أن تطالب بتعديل البند الخاص بانتقاص سيادتها على سيناء، رغم أن الفرصة كانت ولا تزال مواتية لإطلاق تلك الدعوة، حيث لم يعد اضطراب الأوضاع في سيناء خافياً على أحد، والتهديدات التي تمثلها تلك الاضطرابات لأمن مصر واستقرارها لم تعد موضع جدل أو مناقشة. ولا أحسب أن أحداً يمكن أن يجادل في أن ضعف مصر أدى إلى إضعاف العالم العربي برمته وإضعاف القضية الفلسطينية بالتالي، الأمر الذي يجري استغلاله بصورة مكشوفة من خلال دفع العرب إلى تقديم تنازلات مجانية مستمرة للإسرائيليين، كان آخرها طرح فكرة تبادل الأراضي مع إسرائيل لتثبيت تغولها الاستيطاني واستكمال الجريمة التاريخية المتمثلة في تغيير خرائط الواقع لمصلحتها.

إن مصر الثورة التي لم تستقر أوضاعها لم تغير شيئا في القواعد التي أرساها نظام مبارك في علاقته بالفلسطينيين عموماً وفي شأن غزة بوجه أخص. نعم تغيرت الأجواء بصورة نسبية، ولكن القواعد لم تتغير. ذلك أوضح ما يكون في معبر رفح الذي لا يزال معبراً للحالات الإنسانية فقط كما أرادته إسرائيل، وليس ممراً دولياً أو تجارياً كما هي الحال في الممرات الحدودية في مختلف أقطار العالم.

المصدر: السفير، بيروت، 14/5/2013