في ذكرى انطلاقتها الخامسة والعشرين.. حماس إلى أين؟
بقلم: كمال جابر
شهدت الخارطة السياسية الدولية تحولات كبرى في العقدين الأخيرين، طالت بنية النظام الدولي الذي كان يجسد في حينه ثنائية قطبية، مثلت إلى حد ما ضمانا للتوازن في العلاقات بين دول العالم وتياراته السياسية. وانتهت هذه التحولات بتغيير شكل هذه الخارطة، وأعادت جدولة أوزان القوة للدول الكبرى فيها، وتحكمت في قدراتها على التأثير في وجهة وأهداف السياسات العالمية، الأمر الذي أنتج اختلالا في منظومات العالم وسياساته لغير صالح العرب والمسلمين كما رأى البعض.
وبالتزامن مع البدايات الأولى لتلك التحولات، ظهرت حماس على المسرح السياسي، بل سبقتها عمليا كحقائق تمت على أرض الواقع. لقد مثلت رؤية حماس لطبيعة الصراع مع الكيان المحتل، وبرنامجها المطروح للتعاطي معه على ضوء التحولات المشار إليها، حالة فريدة جعلتها تبدو كمن يغرد خارج السرب، أو كالقادم على بساط الريح من خلف الحجب لواقع تشير كل معطياته بالتناقض التام معها كفكرة ورؤية وهدف، لذا فقد سجلت انطلاقة حماس لحظة تاريخية مميزة، طرقت فيها باب السياسة واقتحمته بقوة، دون أن تنتظر الإذن بالدخول من أحد، أو الالتزام بقواعد اللعبة كما هي، فطرحت برنامجا سياسيا مغرقا في الطوباوية والآمال، بالقياس إلى موازين القوى السائدة، والتوجهات السياسية النافذة على الأرض.
الحديث عن لحظة التميز التي واكبت ظهور حماس ينطلق من محددات، منها ما يتعلق برؤيتها وبرنامجها، الذي رأى في العدوان على فلسطين واحتلال أرضها أمرا باطلا ينبغي تصويبه عبر إزالة الاحتلال كلية، وإنجاز تحرير كامل الأرض الفلسطينية، ومنها ما يتعلق بطبيعة الظرف السياسي الدولي الذي أفصحت فيه عن نفسها، حيث أضحى النظام الدولي ذو رأس واحدة تحكمه رؤية وسياسات أحادية، بعد أن أفضت مهمة صناعة السياسات العالمية وتقنينها للضامن الأول لحفظ أمن الكيان الصهيوني، الأمر الذي يكشف عن حجم التحديات التي تعترض حماس في مسيرتها.
هذا الظرف سلبها إمكانية الاستفادة من أشكال الدعم التي تكون متاحة عادة في عالم تحكمه الأقطاب المتعددة نظرا لتضارب مصالحها، وهو الأمر الذي لم تُحرم منه الحركة الوطنية الفلسطينية منذ نشأتها ولم تزل. على أية حال، يتبين أن طبيعة الظرف المعادي أو غير المتفهم الذي واكب ظهور حماس، قد فرض عليها أن تخوض تجربة موصومة منذ بداياتها الأولى بحالة الاغتراب السياسي المريرة، والتي تعني في حقيقتها انزواء وذوبان القيم والرؤى السياسية التي تخص صاحب القضية، لصالح طغيان تلك التي تفرضها القوى السياسية المعادية بحكم قوتها وقدرتها على الهيمنة.
سيادة القيم والرؤى والقناعات تمثل انعكاسا لقانون القوة الذي يسير بالتضاد مع مقتضيات الحق في لحظتنا الراهنة، من هنا، يبدو أن أولى مراحل تغيير موازين القوة يتمثل بعدم الخضوع لما يقتضيه حال الغربة السياسية، أو الانهزام أمام منطقها الجارف، لأن الفشل في ذلك يعني الانكسار عند أول خطوة على طريق المواجهة. إن كل من يتعايش مع منطق الغربة، ويقبل به لن يكون مؤهلا لخوض الصراع، لعجزه عن تجاوز عقبته الأولى، فضلا عن عدم فهمه لطبيعته.
لا يظنن ظان أن المشكلة التي تواجه صاحب القضية أو الرسالة، تكمن في اكتمال شروط حالة الغربة السياسية من حوله، بل إنها تتمثل في عدم قدرته على الصمود المعنوي والمادي في ظرف عصيب عنوانه الاغتراب، ذلك أن الانتقال لمرحلة متقدمة على طريق الانتصار للقضية أو الرسالة يتوقف على النجاح في تخطي هذه العقبة، وإلا فما المعنى أن يكون أحدنا صاحب رسالة أو قضية؟.
من الواضح أنه اجتمع على نسج خيوط غربة حماس السياسية أطراف متعددة، محلية وإقليمية ودولية، فقد سبقها في ساحة العمل الوطني فصائل ومنظمات، وقد فشلت في جلها في تجاوز اختبار التحولات الدولية آنفة الذكر، فاتخذت منها مسوغا للانخراط في مشاريع تناقض روح ما قامت من أجله، عندما اعتبرت أن تلك التحولات تصلح لأن تكون مدخلا لتدشين مرحلة سياسية جديدة، يقوم جوهرها على أساس القبول بالكيان واستيعابه في المنطقة، وكانت الترجمة العملية لهذا التوجه هي الانخراط فيما عرف بعملية السلام.
كانت هذه الفصائل ما قبل التحولات المذكورة تعاني شيئا من الغربة السياسية، كونها نسجت علاقات وتحالفات مع قوى دولية نافذة خففت عنها بعضا من وطأة التحدي الذي يفرضه الصراع، وبانهيار تلك القوى كأحد استحقاقات التحولات الدولية، ازدادت مساحة الغربة في البيئة التي تعمل بها تلك الفصائل، بيد أنها لم تواجه غربة تامة، ومع ذلك فإنها لم تستطع إكمال المسيرة التي انتدبت نفسها لها أول النهار، فغيرت من توجهاتها وبدلت حتى تبقى حاضرة في المشهد السياسي، وإلا اضطرت للخروج منه لعدم قدرتها على مواجهة استحقاقات الغربة السياسية الجزئية التي ألمت بها، وهو ما استدعى منها قبول الشروط التي تحدد مشروعية هذا الحضور ، والسير وفقا لما تقتضيه إن هي أرادت البقاء، وهكذا أصبحت هذه القوى –علمت أم لم تعلم- تمثل البعد المحلي للغربة المحبوكة بإحكام حول القوة الصاعدة (حماس)التي رفضت القبول بالمنطق السياسي السائد.
أما البعد الإقليمي فتمثل في النظام الرسمي العربي الذي وقف بغالبيته الساحقة موقف العداء لحماس تحت مبررات وحجج أوهى من بيت العنكبوت، فلم تر غير الصدود وإشاحة الوجه والتجاهل، في إشارة تدل على أن هذا النظام، هو جزء من المنظومة السياسية الدولية والتي تقوم ركائزها الأولى على محورية الوجود الصهيوني في المنطقة، وأن سلامته وحفظ بقاءه وتفوقه يعتبر من أولى الأولويات. أما ما يخص البعد الدولي فهو أوضح من أن يتم تسليط الأضواء عليه، حيث لم تدخر القوى صانعة السياسة العالمية جهدا لمحاربة حماس، وبذل كل الطاقات لإفشالها وعرقلة مسيرتها.
بين يدي الدلالات التي يفصح عنها الائتلاف المحكم الذي طوق حماس ولم يزل، ما هو عنوان التحدي الذي واجهته بجدارة في ربع القرن الأول من عمرها؟ وهل استطاعت التغلب على تلك التحديات؟ وإلى أين تتجه بوصلتها السياسية بعد ذلك؟ أقول بوضوح، لم يكن عنوان هذا التحدي يتمثل بتحرير الأرض المغصوبة، بل تمثل في قدرتها على الصمود، وتجاوز حالة الغربة السياسية التي تشكل في حقيقتها أكبر الحواجز والموانع التي تحول دون تحرير الأرض. أما اليوم فقد باتت حماس أقدر من أي وقت مضى على المساهمة الفاعلة في تحرير الأرض واسترداد الحقوق، حيث أنها نجحت في الإلقاء بمرحلة الغربة السياسية من وراء ظهرها، ولأنها قدمت عطاء باهرا في ميدان مقارعة المحتل، في المرحلة التي سبقت عملية التحرير الفعلي، فكيف بها اليوم وهي تنجح في تحطيم القيود التي كانت تمنع انطلاق معركة التحرير.
تشير كل المعطيات والدلائل المستخلصة من وحي التجربة الفريدة لحماس، على أنها تتهيأ لتدشين نقطة تحول تاريخية في ذكرى يوبيلها الفضي، والذي يتزامن مع انتصارها الرائع في معركة حجارة السجيل، تقوم على أساس طي صفحة غربتها السياسية، لتؤسس لمرحلة تكون فيه لاعبا لا يتوقف دوره على مقاومة السياسات التي يحاول الآخرون إملاءها عليها، بل ستتقدم خطوة واسعة إلى الأمام لتكون لاعبا قادرا على المشاركة في صناعة السياسات وإملائها وترك الآخرين يختارون طريقتهم للتكيف معها، والتعايش مع مقتضياتها، ولن يكون ذلك على المستوى المحلي فقط، بل على المستويين الإقليمي والدولي كذلك، بحكم أن التحديات الجسام التي تخطتها بنجاح، كانت تعكس الإرادة السياسية بأبعادها الثلاثة، المحلية والإقليمية والدولية، الأمر الذي يؤكد بلغة المنطق أن آثار نجاحها أو فشل مناوئيها ستطال كل الجغرافيا السياسية التي ناصبتها العداء، وما كان الحراك الشعبي العربي الذي انطلق منذ سنتين إلا تعبيرا عن تلك التغيرات كواحدة من الأسباب التي دفعت إليه، وعجلت بانطلاقه قدما حتى يبلغ منتهاه، لا تستطيع عين منصف أن تخطئ اليوم حجم ومضمون التغيرات الناجزة محليا وإقليميا، وعندما تصبح واقعا تملي نفسها على الأرض بأريحية واقتدار، فلن يكون هناك أي عائق يحول دون تغيير الخارطة السياسية الدولية برمتها، ولن تكون هناك قوة على وجه الأرض تستطيع أن تمنع الأمة العربية المسلمة أن تتبوأ مكانها اللائق بها، سيدة بين الأمم، وإن غدا لناظره لقريب.