القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الثلاثاء 26 تشرين الثاني 2024

في مركزية القضية الفلسطينية

في مركزية القضية الفلسطينية

بقلم: ساري عرابي

لم تكن مركزية القضية الفلسطينية ذات إشكال كبير عربيًا على مستوى الخطاب، بما في ذلك الأنظمة الرسمية العربية، بما فيها الأنظمة التي وصفت في حقبة التصنيف الإيديولوجي بالأنظمة الرجعية، بصرف النظر عن طبيعة المواقف العربية الفعلية من القضية الفلسطينية طوال ما انصرم من عمر هذه القضية، وإن اتخذت السجالات العربية في ذلك الحين، وتحديدًا بين القوى التي وسمت نفسها بالتقدمية، منحى خاصًا في ترتيب الأولويات لم يكن لينفي مركزية القضية الفلسطينية في النتيجة، سواء قُدمت عليها الوحدة العربية، أو قُدمت هي على الوحدة العربية، في نمط من التفكير الميكانيكي الذي لا يلحظ حجم التعقيد والتشابك بين القضيتين، أو بينهما وبين المشكلات الخاصة بكل قطر عربي.

فيما بعد أيضًا لم تحظ هذه الموضوعة بالاستشكال، لأنها فقدت مكانها أساسًا في الخطابات العربية، مع انهيار الناصرية، وتراجع مكانة الأنظمة القومية العربية، والتي تلقت ضربتها القاضية الفعلية مع حرب الخليج الثانية، وتحول الأولويات المحلية نحو التسليم بأولويات الدولة القطرية بأنظمتها الملتحقة نهائيًا بالإرادة الغربية، ولكن رافق ذلك وتلاه انهيار الحركة الوطنية الفلسطينية في الخارج، والذي بدأ تدريجيًا مع الحقبة الساداتية التي جرّدت الوجود الفلسطيني في لبنان من مظلته الناصرية، ثم في خروج مصر الفعلي من الصراع، ثم مع الحرب العراقية الإيرانية التي خلقت اصطفافات جديدة إقليمية وطائفية، وأخلّت بالتوازن النّسبي الذي عوّض فيه العراق عن خروج مصر من الصراع.

ظلّ النظام السوري وحده تقريبًا من يضمّن القضية الفلسطينية في خطابه وسياساته، وبصرف النظر عن أسبابه وصدقيّته، فإنّه منح مقولة مركزية القضية الفلسطينية حضورًا متجددًا، بين أخذ وردّ، ولا سيما بعد الثورة السورية، فمن جهة يتغطى النظام وحلفاؤه الإيرانيون وتوابعهم بالقضية الفلسطينية لتمرير سياساتهم، وفي المقابل تجري مراقبة مواقف الفصائل الفلسطينية من الموضوع السوري بدقة.

من هنا عادت مقولة مركزية القضية الفلسطينية للحضور، بدوافع ونوايا مختلفة، بين من يعتقد أنها السبيل الوحيد لإنهاء ما يراه حروب تدمير ذاتي، وبين من يستخدمها لأغراض انتهازية في تسويق سياساته وإسقاط خصومه، وبين من يريد نفي مركزيتها تمامًا لحجة استخدامها المدمّر من طرف خصومه، وفي هذا السياق ولدت سجالات لا معنى لها في المفاضلة بين الدماء والقضايا ومستوى المعاناة والوحشية، وأولوية الإنسان على الأرض، وما إلى ذلك، فهذه السجالات كلها وحين حسمها، لا تعني بالضرورة انتفاء مركزية القضية الفلسطينية.

تكمن المشكلة في تلك السجالات والتصورات المتعارضة حول موقع القضية الفلسطينية من العرب، ودور الفلسطينيين إزاء قضايا العرب (بين من يطالبهم بعدم التدخل وبين من يطالبهم بالتدخل)، إما في فصل القضايا عن بعضها، أو في عدم إدراك موقع القضية الفلسطينية المادي والمباشر بالنسبة للقضايا العربية، ودور العرب الضروري تجاه القضية الفلسطينية، أو في عدم إدراك السياقات التي تضع القضايا في موقعها الصحيح.

هنا، وحين الحديث عن السياقات، فإنه لا يمكن الحديث عن قضايا عربية لحوحة ودامية، إلا في السنوات الخمس الأخيرة، فبالرغم من أن كل أشكال الظلم التي اقترفتها الأنظمة العربية، وكل أشكال الفشل التي سقطت فيها، كان ينبغي أن تتحول إلى قضايا، فإنها لم تتحول إلى قضايا بالمعني الفعلي، أي من جهة تحولها إلى صراع داخلي واسع، إلا في السنوات الأخيرة، بينما مضى على عمر القضية الفلسطينية مئة عام، ولكن من جهة أخرى، فإن أسباب الثورة في جوهرها لا ينبغي أن تقوم على فشل الأنظمة، بل على فشل الدولة القطرية العربية في الإجابة على أي من وعوداتها سواء تلك المتعلقة بنهضة الدولة "الوطنية" أو المتعلقة بحلّ القضية الفلسطينية، وهو الأمر الذي يحيل إلى إعادة النظر في هذه الدولة واتخاذ الموقف الصحيح من القضية الفلسطينية، وليس في تكرار الفشل. وعدم إدراك جوهر المشكلة هو واحد من الأسباب التي أدت إلى الهزيمة الآنية للثورات العربية حتى الآن.

لقد بدأت المأساة الفلسطينية في طورها الثاني، أي مع قيام الكيان الصهيوني، بالتزامن مع استقلال الدول العربية، وتخلّق وطنيات مستحدثة تتنكر لسياق القضية، وكأن استحداث هذه الوطنيات كان ضرورة لزرع الكيان الصهيوني في فلسطين في قلب الأمة، ولذلك فإن الفلسطيني الذي لجأ بعد العام 1948 إلى ما كان بالأمس أرضه وبلده، وجد نفسه أجنبيًا على هذه الأرض، والتي لم تكن حتى العام 1917 سوى وحدات إدراية متداخلة تابعة للدولة العثمانية، وفوق ذلك فإن الدول العربية المستحدثة وفق الحدود الاستعمارية هي التي هزمت في كل من نكبتي العامين 1948 و1967، لا الفلسطيني الذي لم يملك أي شكل من أشكال البنى الدولاتية أبدًا.

ولأن المقاومة الفلسطينية تتعارض مع أولويات أو مصالح الدول المستحدثة استعماريًا، فإن تلك الدول لم تكتف فقط بالتنكر لمسؤوليتها التاريخية عن ضياع فلسطين في النكبتين، ولكنها أيضًا حاصرت مقاومته وحاربتها حينما كانت على أرضها، وحاصرتها حتى حينما كانت على الأرض الفلسطينية، ولا تزال، (دون أن يعني هذا براءة الفلسطيني من الأخطاء)، وإذا كانت المسؤولية العربية عن ضياع فلسطين مسألة تاريخية بالنسبة للعرب، فإنها مسألة حيّة بالنسبة للفلسطينيين، كما أنَّ مقاومة فلسطينية فاعلة ومنجزة لا يمكن أن تتحقق إلا بإسناد وتغطية من البلاد العربية المحيطة، وهو ما يخلق مركزية فلسطينية بالضرورة، ويحتّم واجبًا عربيًا إزاءها، وليس في هذا أي نزعة نرجسية فلسطينية أو نزعة تفضيلية للدم الفلسطيني.

في هذا السياق يبدو الاستعمار حاضرًا بقوة، فالحال الراهن، القضية الفلسطينية ودول التجزئة بشكلها الحالي ووجود نخب سياسية محكومة بالسقف الاستعماري ومستجيبة لاشتراطاته لضمان بقائها، بما في ذلك تعطيل الإرادة والقدرة على بناء دولة وطنية قوية؛ هو في جانب منه نتيجة للحظة استعمارية لم تنته، ما يترتب عليه تداخل القضايا العربية بمضامينها المتعددة (حريات، تنمية، ديمقراطية، مشاركة، عدالة اجتماعية.. الخ) مع الموقف من الاستعمار عمومًا، وتجليه المكثف داخل أرضنا العربية في الكيان الصهيوني خصوصًا.

من جهة أخرى، لا يمكننا كعرب استكشاف أخطائنا الذاتية، وتطوير نموذجنا الخاص، وتحديد خياراتنا في أنظمتنا الاجتماعية والسياسية ووحدتنا كعرب ومسلمين، إلا بتجريد العامل الاستعماري، بتصفيته لا بإنكاره، وهذا ابتداء، أيًا كان البلد العربي، وهو ما يجعل كثيرًا من النقاشات النظرية وما ينبني عليها من صراعات، والبحث عن مشكلاتنا وحلولنا في تاريخنا أو في حضارة غيرنا، مفترقة إلى حد ما عن المشكلة الواقعية، وهي الاستعمار الذي يحول دون قدرتنا على التحديد الصحيح والحرّ لعيوبنا أو لخياراتنا.

وواقعيًا يتضح العامل الاستعماري في ألصق ثورتين بفلسطين، أي في مصر وسوريا، ببعديه الغربي العام والصهيوني الخاص، سواء في الانقلاب في مصر، أو في إطالة أمد الاحتراب السوري، بما يضمن أمن ومستقبل الكيان الصهيوني، وبما يستنفد المقدرات العربية وبالتالي كبح أي نهضة عربية محتملة، ومنع الإسلاميين من حكم أي من هذين البلدين، وبهذا لا يمكن للثورات العربية أن تنجز مطالبها حقًا، حتى لو أسقطت أنظمتها، دون التحرر من الاستعمار ذاتيًا وتصفية الكيان الصهيوني موضوعيًا، فلا مصر هي تركيا، ولا سوريا هي ماليزيا أو كوريا الجنوبية أو اليابان.. هنا عرب مسلمون، وهنا "إسرائيل".. هنا قلب العالم العربي، وبالتالي قلب العالم الإسلامي، وبالتالي إمكانية استئناف النهوض الإسلامي من جديد.

لا يدور هذا النقاش حول الأولويات العملية، أي أيهما أسبق تحرير فلسطين أم التخلص من أنظمة القهر والاستبداد والتبعية، فالمسألة ليست بهذا الشكل الميكانيكي الذي يفترض انفصال الموضوعين، بالإضافة إلى أن الظرف لا يحتمل هكذا سؤال سبق طرحه من بعد نكبة العام 1948، فالأمة الآن في حالة ثورات فعلية لا افتراضية، لا تبقي مكانًا لهكذا سؤال افتراضي، فثمة قضية فلسطينية، وثمة قضايا عربية دامية، وثمة ترابط عضوي تاريخي وراهن بين القضية الفلسطينية والقضايا العربية، فالدور الأساسي للفلسطينيين، ومنهم الحركة الإسلامية، يتمثل في الصمود على الثغر الفلسطيني، والمساهمة في تحرير العرب من الاستعمار بقتال العدو الصهيوني وتجديد الوعي العربي باستمرار بخطورة الوجود الصهيوني على القضايا العربية، وذلك كجزء من مشروع تحرري عربي، يتضمن أولويات متساوية منها الوعي بالعامل الاستعماري في التخلف العربي الراهن بما فيه من أنظمة قهر واستبداد، وأولوية الكرامة الآدمية وحرية الإنسان، ودون أن تشكل الحسابات الخاصة بأي من القضايا خطرًا استراتيجيًا على غيرها من القضايا الأخرى، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.

المصدر: موقع "عربي 21"