في
نقد خطاب أبو مازن.. احتكار قرار الحرب والسلم لا يكون إلا لدولة
بقلم:
أحمد الحاج
خطاب
رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس (أبو مازن) حول أحقية قيادة فلسطينية مشتركة في
امتلاك قرار الحرب والسلم قد يبدو ظاهرياً أنه يحمل بعض أوجه الصحة، لكن عند
تفكيكه، والتدقيق فيما جاء فيه، ورؤية أبو مازن للتسوية، يظهر ضعف بنيان المقولة،
ومخاطر مراميها.
فبداية
إن مقولة احتكار الدولة لوسائل العنف، التي تعود إلى عالم الاجتماع الألماني ماكس
فيبر، والتي غدت من سمات الدولة الحديثة، لا تنطبق أبداً على الحالة الفلسطينية،
ولا يمكن مقارنتها بما يجري في الضفة وغزة، وعلى أرض فلسطين عموماً. فما زال تعريف
الكيان القائم في غزة، وعلى قسم من الضفة، بالسلطة الفلسطينية، وهي منبثقة من
اتفاق ثنائي، بغطاء دولي، ولم تحظ حتى الآن بصفة دولة، وإن كان هناك اعتراف
بفلسطين كعضو مراقب في الأمم المتحدة، لا يتمتع بصفة دولة كاملة العضوية.
فمهما
حاول كيان السلطة الفلسطينية أن يستخدم مصطلحات تتوافق مع سمات الدولة مثل: دخل
قومي، وانتخابات، وشرطة، وبلديات وغيرها، إلا أن التوصيف القانوني للضفة وغزة (مع
بعض التباينات أحياناً فيما يخص الأخيرة)، ما زال يعتبرهما أراضي تحت الاحتلال.
ولا يمكن ممارسة صلاحيات الدولة، والسلطة لا تملك حدوداً جغرافية نهائية معترفاً
بها حتى الآن، ومعظم ميزانيتها تأتي من المساعدات الخارجية، ومن الضرائب التي
تحصّلها (إسرائيل) من الفلسطينيين وتدفعها لخزينة السلطة وفق اتفاقية باريس، إضافة
إلى سيطرة الاحتلال على المنافذ، والتحكم بحركة الفلسطينيين، والاجتياحات المتكررة
المترافقة مع الاعتقالات، والاغتيالات، واحتلال المستوطنات لأكثر من 40 بالمائة من
مساحة الضفة، ومحاصرة غزة، كل ذلك يُسقط تماماً صفة الدولة عن كيان السلطة، ويضع
حتى تسمية السلطة موضع شك.
ولا
يمكن ممارسة صلاحيات الدولة دون امتلاك مقوماتها، وهو ما حاوله من قبل رئيس
الوزراء الفلسطيني سلام فياض، وبديهي القول إنه فشل. إن السلطة تحتكر العنف بعد
قيام الدولة، وليس قبل ذلك، وعند قيام جيش موحد، كما حصل مثلاً في الكيان الصهيوني
بعد إعلان قيامه، ثم إغراق السفينة (التالينا) المحملة بالأسلحة والتي أحضرتها
منظمة (إيتسل) الصهيونية.
الأمر
الآخر، إن من يطالب بالمشاركة بقرار الحرب والسلم، ويصر على عدم قبوله "إلا
بسلطة واحدة، وبندقية واحدة، وقرار السلم والحرب بيد السلطة وإلا ستكون
فوضى"، عليه أن يؤمن أولاً بجدوى خيار الحرب، وفائدة تُرجى من استخدام
البندقية، لا أن ينطلق من الحديث عن "الصواريخ العبثية"، ويتبعها بتكرار
التأكيد على أنه "لن نقبل بأي عودة للعنف"، ثم يزيد بأن "شعبنا لن
يعود الى الارهاب والعنف، ولن نسمح بانتفاضة ثالثة"، و"لن أسمح بانتفاضة
فلسطينية ثالثة طالما بقيت في السلطة"، فكيف يمكن أن يُعطى من لا يؤمن بالعنف
كوسيلة لاسترداد الأرض، الحقَّ بالمشاركة بقرار استخدامه، وهو في الأصل لم يملك
الجرأة حتى على رفع دعاوى على الاحتلال في المحاكم الدولية بسبب ارتكابه الجرائم
في العدوان الأخير على غزة؟
إن
نبذ أبو مازن للعنف، وإيمانه بالتسوية، هو أصيل في شخصيته، وليس تفكير عارض، حتى
نؤمن بإمكانية تغييره، فمنذ أطلق نبيل شعث مبادرته لدولة ديمقراطية تضم الجميع عام
1968، آمن أبو مازن بها (هذا ما يقوله في كتابه "الطريق إلى أوسلو").
وبعدما تسلم التعبئة والتنظيم في حركة فتح عام 1970، فتح حواراً مع قوى إسرائيلية،
يسارية في أغلبها، ليخطب عام 1977 خطاباً مطولاً في المجلس الوطني الفلسطيني مدافعاً
عن خياراته التسووية. وكان أول رئيس وزراء للسلطة عام 2003، وبضغط دولي واضح
ومعلن، من أجل هذه الخيارات.
يشدد
أبو مازن دوماً على أنه سينتهج "الوسائل السلمية والطرق الدبلوماسيّة"،
رغم أن خيار التسوية فشل، مما يدفع أبو مازن منذ عام 2009، للتهديد: "لديّ
خطوات أخرى سأعلنها في وقت لاحق"، ثم يتراجع نتيجة الضغط الأمريكي والدولي.
وهذه مشكلة كل التسوويين في المنطقة، أنهم يتراجعون نتيجة الضغوط الدولية،
والأمريكية خصوصاً، ولا يؤمنون بالإرادة الشعبية.
يكاد
ينطبق عليهم ما وصف به المفتي الحاج أمين الحسيني رئيسَ الوزراء العراقي نوري
السعيد بأنه "كان خطأ سياسته أنها تعتمد على الربح السياسي الذي تقدمه فرص
الخلافات بين الدول العظمى دون أن يعطي الدور الأول للشعب". وهذا خطأ أبو
مازن أيضاً، حيث إنه من الزعماء القلائل الذين تندر لقاءاته الشعبية، ويرى في
لقاءاته الرسمية الدولية الثمرة الوحيدة التي يمكن أن يجنيها.نعم إن الفلسطينيين
بحاجة إلى تشكيل جبهة مقاومة، فطنة سياسياً، لديها من الحنكة والقراءة ما يؤهلها
لرؤية الواقع السياسي، ونسج تحالفات عريضة، والاستفادة من أي تناقض دولي، ودراسة
المعطيات التي على أساسها تقرر الأسلوب الأمثل للمواجهة، والخيارات مفتوحة من
التحرّش وفق سياسة جورج واشنطن، إلى المواجهة المحدودة أو الحرب الشاملة، لكن لن
يكون أبداً ضمن الخيارات نبذ العنف والتسليم بخيار التسوية كخيار نهائي وفق رؤية
أبو مازن.