قـراءة فـي الاختمـار الاجتماعـي
بقلم: أباهر السقا
يعيش المجتمع الفلسطيني في داخل فلسطين حاليا أشد أزماته التي بدأت تعصف بالمشروعات المجتمعيًة و«بالسياسات الاقتصادية» و«بالمشروع الوطني»، وتفتح آفاقًا للتساؤلات عن حالات الاختمار الاجتماعية التي تًتراكم يوما بعد يوم. فمنذ أكثر من عشر سنوات تنامى شعور بتراجع دور مؤسسات السلطة الفلسطينية وقدرتها على تشغيل قطاعاتٍ أوسع من الشباب، ونشأت أزمة ثقة بين الأفراد ومؤسسات السلطة، وتراجعت قوة التأثير للفصائل السياسية، واستفحلت أزمة مشروع «حل الدولتين». وبقراءة سوسيولوجية مشهدية لواقع الحياة اليومية في المجتمع الفلسطيني، تتكشف لنا مجموعة من الحراكات المجتمعية المتعددة وغير المتجانسة أو المنسجمة، وقد تشكل بداية ظهور لفاعلين اجتماعيين منحدرين من شرائح اجتماعية مختلفة قاسمهم المشترك الرفض لأحد المشروعات المجتمعية، أي تحركهم ضدّ «عدوّ اجتماعي» ومن أجل أهداف مختلفة. نرتكز في قراءتنا على هذه الحراكات كخيط ناظم للتحليل.
مع بدء سيرورة استعادة جزء من الجماهير العربية حقها في التعبير في الفضاء العام وتملكه، ومع انطلاق الثورات على النظم الاجتماعية الاستبدادية العربية، تحركت مجموعات شبابية فلسطينية نشطت افتراضيا؛ ثم جسدت حراكها في الواقع الاجتماع باعتباره مرآة العالم الافتراضيز قوام هذا الحراك هم شباب فلسطينيون لا تجمعهم علاقات تواصل فيزيائية مباشرة مع إخوانهم العرب، رؤوا في هذه الحراكات والانتفاضات العربية انبعاثًا هوياتياً جديدَا وتوكيداً على ذات استخف بها وقزمت نفسها. هذا الثماثل المجتمعي الفلسطيني مع الحراكات الاجتماعية العربية الحالية لا يُصنف ضمن استعادة الفكرة القومية بالمعنى المُحزب، ولكن يمكن القول إنه إعادة اعتبار لفكرة القومية باعتبارها ضرورة ملحة وحيواتيةً لمجموعات كبيرة من أفراد الشعب الفلسطينى المنعزلة فيزيائيا عن عمقها العربي. وهي تشكل مصدر اختبار لتيارات «الفلسطنة» التي اعتقدت أن قيام الدول الوطنية «القطرية» ما بعد الاستقلال قد قوض حلم المشروع الوحدوى العربي. ومن الواضح أن الحراكات الحالية في الضفة الغربية وقطاع غزة وفي المجتمع الفلسطيني في فلسطين 1948 تعيد بلورة خطاب قومي جديد يتعايش مع الخصوصيات العربية المحلية؛ والتي من الجلي فيها أن قضية فلسطين كانت وما تزال هي قضية العرب الأولى؛ حتى وإن سادت خطابات رسمية مُهمشةً، لأن التداخل المحلي - القومي في الثورات العربية الحالية يعطي روحا جديدة متجددة. ويظهر ذلك من خلال منطق المحاكاة (بحسب روني جيرار) والذي كان حاضرًا بقوة، حيث اُستحضرت شعارات الثورات العربية في الحراكات الاحتجاجية في 2011 وفي الاحتجاجات التي انطلقت في أيلول الماضى. آليات حراك جديدة بدأت إذاً تتشكل آليات حراك جديدة في المجتمع الفلسطيني، حيث رأت مجموعات شبابية جديدة انه قد حان الوقت لأخذ زمام المبادرة. هذا الحراك الذي بدأ في نهايات شباط 2011 وبدأت تظهر معالمه في 15 آاذار 2011 قادته مجموعات شبابية من الجنسين؛ تنتمي سوسولوجيا إلى شرائح الطبقة المتوسطة، والقليل من الشرائح العليا. جٌلهم من طلبة الجامعات ومن موظفين جدد؛ وهم خليط من أفراد مستقلين وآخرين من ذي توجهات يسارية وليبرالية وعناصر محسوبة على تيارات فتحاوية وقليل من الإسلاميين. تم احتواء هذه الاحتجاجات بطرق مدروسة ومنظمة في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة، وحٌولت إلى مهرجانات احتفالية من قبل حركتي فتح وحماس، حيث تمت السيطرة على المشهد الشارعى عن طريق زج آلاف الموظفين وأفراد الأجهزة والمؤسسات للمشاركة في التظاهرات. أطلق هؤلاء الفاعلين في هذه الحراكات مجموعة من الشعارات كعناوين للتحركات مثل: إجراء انتخابات المجلس الوطنيّ رافعين للواجهة من جديد نقاشاً قديماً حول علاقة فلسطين كمركز (رمزي وعاطفي وسياسي وحقوقي وهوياتي) بالأطراف؛ وعلاقة فلسطين بتجمعاتها المختلفة خارج الوطن، طارحين من جديد قضية الشعب الفلسطينى باعتباره صاحب قضية واحدة وليس شعبا مختزلا يتكون من سكان المناطق التي تسيطر على بعضها السلطة الفلسطينية، ومجموعات شتاتية تعيش كل منها علاقات خاصة مع كل دولة مضيفة على حدة. ورفعت أيضا شعارات «إنهاء المفاوضات» و«إسقاط أوسلو» ووقف التنسيق الأمنيّ مع «إسرائيل»، ومناهضة التطبيع ومقاطعة «إسرائيل» فضلاً عن الشعار الرئيس «إنهاء الانقسام». عمال فلسطينيون في طريقهم إلى المعامل الاسرائيلية والمستوطناتوعلى رغم من عدم قدرتها على شحن الشارع أو قيادته؛ سرعان ما بدأت هذه المجموعات تتحول الى جماعات ضاغطة مؤثرة تتحرك على صعد مختلفة، ومن أجل قضايا مجتمعية مختلفة، تجمع بين الاحتجاجات المطلبية اليومية والاحتجاجات السياسية، وهي تختلف جذريا عن الاحتجاجات الاجتماعية الأخيرة والتي يشترك بها جزء من هذه الجماعات الشبابية الضاغطة، ولكن وقود الاحتجاجات الأخيرة (أيلول) من شرائح مختلفة، وتبدو ذات طبيعة مطلبيّة؛ قوام مسيروها من تيارات محسوبة على حركة فتح التي تقود الصراع في الشارع ضد سياسة رئيس الحكومة سلام فياض، وبعضها يناضل ضده شخصيا بسبب تصادم مصالحه مع سياسته المالية التقشفية، وبعضها الآخر مرتبط بتيارات فتحاوية أخرى تختلف معه سياسيا. تنضم الى هذه الفئات فئات منسجمة معها حزبية وأخرى غير ذلك، وتتصدر المشهد هذا شرائح جديدة/ قديمة وهي شرائح السائقين ونقاباتهم الذين أغلقوا الشوارع وقادوا جزءا من الاحتجاجات الأخيرة ضد ارتفاع أسعار المحروقات والغاز.. الخ. وانضمت لهم شرائح اجتماعية من صغار التجار والبائعين، ومن خلفهم مجموعات اجتماعية واسعة تعاني انتشار الفقر والبطالة وغلاء المعيشة، ولم يعد بإمكان شرائح واسعة من المجتمع امتلاك القدرة على تحمّل ذلك، وهي غير متجانسة بالرؤى فيما يخص «السياسة الفياضية»، فبعضها ينتقد سياسات الخصصصة والليبرالية وإلحاق الاقتصاد الفلسطيني المستَعمَر بالمستَعمِر الاسرائيلي؛ وتطبيق سياسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، والشروط للمؤسســات المالـــية العالميـــة المٌعولمًة والمنسجمة مع قطاع خاص فلسطيني يتعاظم يوما بعد يوم وعلى نحو منقطع النظير. يتفق الفاعلون المختلفون على رفض السياسات والاستراتيجيات التي تقودها المؤسسات السياسة من أجل إقامة «المشروع الدولاتي» ومقاومة الاستعمار الإسرائيلي. تشوه الواقع المعيش
وليس دقيقا توصيف ما يحدث في الشارع الفلسطينى بأنه حالة احتجاج آنية تعبر عنها شرائح اجتماعية محسوبة على تيار معين، ومن المؤكد أن ثمة قطاعات كبيرة من المجتمع الفلسطينى تشعر بتراجع قدرتها الشرائية وبعدم قدرتها على تلبية حاجاتها الأساسية، والتي تتناقض مع السياسات العامة بالمرتبطة «باقتصاد ريعي» يقوم على المساعدات الخارجية، والمٌحِفَزة لثقافات استهلاكَوية وأنماط معيشية مرتبطة بنماذج «العيش الاقراضي» والنزعات الاستهلاكية المتعاظمة، والتي تُقدم لمجموعات كبيرة من الموظفين الجدد والشابات والشبان عبر خطابات يصبح فيها الشغل الشاغل للمواطنين هو الحصول على شقة وسيارة مدعمة بسياسات مصرفية تجعل من جل السكان مقترضين، مما يؤثر على الرؤى الاجتماعية والمجتمعية والوطنية المرتبطة بقدرتهم على الشعور بأحلام معيارية جديدة.
هذا التَشُوه للواقع الاستعمارى المُعـــاش يستـــحضر مجموعة من الخطابات التي تعمل من خلال وسائل الاقناع مختلفة التأثير على َتمثُلات الناس وتخُيلاتهم الجمعية عن الحياة تحت الاستعمار. وتُغيب مشاريع «التحرر» وقيم «العمل الطوعي» ومقاومة الاستعمار. وتستبدل بخطابات «التنمية الاقتصادية» وتقارير للبنك الدولي عن «جاهزية الدولة»، وخطابات قانونية حقوقية تنظر لاستحقاقات حقوقية في المحافل الدولية تجعل المجتمع بكامله في حالة انتظار وترقب وفُرجة وتِشغُله. وتُؤسس بالوقت ذاته لتساؤلات نقدية مجتمعية عن فشل مساعي الحصول على الدولة عبر الخطابات المتكررة في الأمم المتحدة والفشل الذريع لتجارب عشرين سنة من التفاوض، وتخبط القيادات السياسية وفشلها، مقابل تغير الحقائق على الأرض لصالح المشاريع الاستيطانية الإسرائيلية وسياسات الأمر الواقع التي تفرضها إدارة الاستعمار. ويشعر الفلسطينيون اليوم بوجود غياب لمؤسسات وطنية جامعة، وغياب لبرنامج وطني، وغياب لمرجعيات ولاستراتيجيات واضحة، وتنكشف أيضا صراعات بين مشروعيات مختلفة بعضها ينتمي لماضي بعض رواد هذه المشروعيات، وبين شرعيات لا «شرعية» ولا «دستورية» لها، وبين شرائح صاعدة تحاول الارتكاز على حالات الاختمار الاجتماعية على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية من أجل بلورة مشروعيات جديدة، مما يخلق حوارات صاخبة حول القضايا سابقة الذكر حتى وإن بدت آنيا «المطلبية» هي سيدة الموقف. الحراك الاجتماعي ضد المستعمر تساؤلنا هنا هل يمكن اختزال هذه الحراكات الاجتماعية «بالمطلبية الاحتجاجية» وتغييب السياسي؟ قراءة الأحداث تقول لا؛ لأنّ السياسي لا يُختزل في السياسة، ولأنّ المقاومة السياسية تأخذ أكثر من شكل، وتلك حقيقة يبرهن عليها بروز السياسة من «اللاسياسة» وطلوع فئات اجتماعية جديدة وقوى سياسية جديدة قيد التبلور؛ وفاعلين اجتماعيين جدد، سينتقلون من أدوار الأعوان إلى أدوار الفاعلين (بمعنى تورين)، رغم إن الممارسات السياسية الجديدة في حقل ما بعد أوسلو وما قبله خلقت ثقافة اتكالية وزبائنية ومحسوبية كرست ثقافة الصعود في الحراك الاجتماعي عبر مُحفزات حرق مراحله؛ كما أن تخيل الشروط الاستعمارية الخالصة والمشوهة يعطي الانطباع بأن الناس لا يعيشون شروطا استعمارية وإنما يقعون فقط تحت «الاحتلال العسكرى»، مما يخلق حالة تَشٌوه مُستَعمًرية تعاش من خلال إقامة علاقات يومية لشرائح محددة مع المستعمرين وشراء بضائعهم والتعامل معهم اقتصاديا. يترافق ذلك مع سعي الإدارة الاستعمارية آنيا لتوسيع دائرة «التسهيلات» للدخول إلى «إسرائيل» لتحول الفلسطينيين لمستهلكين مباشرين دون وسطاء فى سوقها وتنتزع من السلطة الفلسطينية «خاصية التشغيل»، وبأسعار منافسة، وهي إحدى الخاصيات التي عملت حتى اللحظة على بقاء السلطة لارتباط الأخيرة بقدرتها على سد قوت شرائح اجتماعية واسعة، والتي تعمل كلها على تشويه المشهد أكثر وتحويل العلاقة الاستعمارية/ المستعمرية (ميمى) إلى علاقة طبيعية. جل هذه التغيرات مؤقتة، وهي انعكاس لحالة الاحباط التي تعيشها شرائح كبيرة، والقارئ لحالة المجتمع الفلسطينى قبل الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وإلى حد ما قبل الانتفاضة الثانـــية، يخلـــص إلى نتيجة تقول إن هذه الحالات هي مشروطة بتراجع المشاريع الوطنية الكبرى؛ وتراجع زخم وقوة الأشكال المقاومة. وفي كل مرة تعود مقاومة الاستعمار، ولكن كل مرة بطرق جديدة ومغايرة وتختلف أشكال التعبير عنها، وذلك لسببين:
عمال فلسطينيون في طريقهم إلى المعامل الاسرائيلية والمستوطناتأولا: لأن الحركة الاجتماعية التي تتولد باعتبارها نسقا اجتماعيا متوترا، تنتج عن انحراف مسار اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي، وهي تنحو منحيين إما أن تنطوي إلى عالم المستتر، وإما أن تظهر إلى العلنية في الفضاء العام. وبما أن المجتمع الفلسطينى مجتمع يعيش حركية اجتماعية عالية، وبعكس مجتمعات عربية أخرى، ولم يكن يوما فضاؤه العام حكرا على أجهزة القمع الرسمية أو وسائل التأثير الدولاتية، فإن هذه المجموعات الشبابية والمجتمعية ترتكز على قواعد أصيلة تشحن الناس بخطاب مستتر يومي يراكم غضبه واحتقانه وتذمره ليؤسس لخطاب علني مضاد يتم التعبير عنه في الفضاء العام الفلسطينى، لا سيما أن العمل الارتجالي يرتكز على شبكات مجتمعية، وهي شبكات أصيلة منغرسة في المجتمع، وهي تنمو بدرجة من الاستقلالية الذاتية بعيدا عن النخب الحاكمة، وتنشئ ثقافة مضادة للثقافة الرسمية. وبالتالي يمكن لنا قراءة عزوف بعض الشباب عن الممارسات السياسية بمعنى الانتظام كأفعال مقاومة.
ثانيا: ولأن الشروط الاستعمارية كانت وما زالت قائمة عبر ممارسات الاستعمار الإسرائيلي، التي تتعاظم، ولأن ممارساتها الاستعمارية تتناقض مع وجودها كمجتمعات غير مستعمرة، فإن هذه الشروط المشوهة ستنتهي بمقاومتها. ومن المؤكد أن الحراك الاجتماعي الفلسطيني سيوجه في النهاية ضد المستعمر حتى وإن دفعت ثمنه بعض الفئات السياسية والاجتماعية المسيطرة آنيا، وسيسمح لصنافيات اجتماعية للظهور ولفاعلين جدد في الحقل السياسي، وستفرض قواعد اشتغال جديدة. حالة الاختمار الحالية إذن بنية اجتماعية وليست مجرّد شعور آني. ولمّا كانت بنية، فإنّ لها قواعد اشتغالها وستنتج مؤسّسات وتنظيمات ومقولات وخطابات وفاعلين جدد.
مدرس في دائرة علم الاجتماع، جامعة بيرزيت
المصدر: ملحق جريدة السفير