قراءة في التحركات الشعبية الفلسطينية
بقلم: رأفت مرة
منذ أن أُعلن عن اختفاء ثلاثة مستوطنين صهاينة قرب منطقة الخليل يوم
الخميس 12 حزيران/يونيو الماضي، تطورت الأوضاع في الضفة الغربية وقطاع غزة
والمناطق المحتلة عام 1948، حيث حصلت ردود فعل صهيونية قابلتها مواقف وتحركات
فلسطينية قوية، بلغت ذروتها بعد خطف وقتل الفتى الفلسطيني المقدسي محمد حسين أبو
خضير (16 عاماً) الذي خُطف فجر يوم الأربعاء 2 تموز/يوليو.
لقد أحدثت عملية أسر المستوطنين الثلاثة تداعيات كثيرة على المستويات
الفلسطينية والإسرائيلية.
مسيرة المواجهة
على المستوى الفلسطيني، جاءت عملية الأسر بعد ازدياد الاعتداءات
الإسرائيلية على القدس والمسجد الأقصى المبارك، واتساع الاستيطان، وازدياد
اعتداءات المستوطنين على الفلسطينيين، وانتهاكات جيش الاحتلال ضد المواطنين
الفلسطينيين خاصة في القدس، واستمرار أكثر من 150 أسيراً ومعتقلاً فلسطينياً في
إضرابهم عن الطعام، واستمرار الحصار على قطاع غزة، ورفض الاحتلال إطلاق آخر دفعة
من الأسرى من أصل أربع دفعات متفق عليها برعاية أمريكية.
عملية أسر المستوطنين الثلاثة جاءت أيضاً بعد ارتفاع مستوى المقاومة في
الضفة الغربية، حيث قتل فلسطينيون الضابط باروخ مزراحي العامل في جهاز 8200 في
المخابرات الصهيونية، وكذلك الجندي عيدن اتياس
قرب جنين، وبعد مواجهة عسكرية في جنين أدت إلى استشهاد ثلاثة مقاومين من
"كتائب القسام" و"سرايا القدس" و"كتائب شهداء
الأقصى"، وهم حمزة أبو الهيجا ومحمود هاشم أبو زينة ويزن محمود جبارين.
كما جاءت بعد ما يقارب 60 محاولة أسر مستوطنين وجنود صهاينة، وبعد احتدام
المواجهات في المسجد الأقصى المبارك وبشكل يومي تقريباً.
لذلك، فإن عملية أسر المستوطنين الثلاثة، حظيت بقبول وترحيب شعبي فلسطيني
واسع، وأدت إلى ارتفاع روح الانتماء الوطني، ووفرت دعماً كبيراً لخط المقاومة،
ووحدت المجتمع الفلسطيني حول مطلب إنجاز عملية تبادل، وأوجدت أرضية خصبة لتحريك
قضية 5000 أسير ومعتقل فلسطيني في سجون الاحتلال.
وأدت عملية الأسر إلى إلحاق خسائر كبيرة بالسلطة الفلسطينية ورئيسها بسبب
إدانتهم لها، وتعهّدهم بالبحث عن المستوطنين الذين وصفهم رئيس السلطة محمود عباس
بأنهم "بشر مثلنا" وإعادتهم إلى عائلاتهم، وبسبب التنسيق الأمني القوي
الذي ارتفعت مستوياته، وصمت السلطة سياسياً وإعلامياً عن كل الممارسات والاعتداءات
التي نفّذتها قوات جيش الاحتلال أثناء عملية البحث عن المستوطنين، والتي أدت إلى
انتهاك حرمات المنازل، وتدمير ممتلكات، وتخريب أراضٍ زراعية، ونبش القبور.
أزمة في الكيان
على المستوى الإسرائيلي، أحدثت عملية الأسر أزمة داخل الكيان الصهيوني،
حيث انكشف عجز جيش الاحتلال والأجهزة الأمنية عن توقّع حصولها أو اكتشاف المخططين
لها مبكراً أو معرفة مصير المستوطنين لما يقارب عشرين يوماً، أو الوصول إلى
المنفّذين.
وعمّقت عملية الأسر الأزمة داخل الائتلاف الصهيوني الحاكم، حيث حمّلت
أطراف كثيرة نتنياهو المسؤولية عمّا آلت إليه الأمور بسبب سياساته، وحشره محمود
عباس في الزاوية أكثر من مرة وتغاضيه عن قضية الأسرى وتعطيله العملية السياسية.
ومنح اتهام "حماس" بعملية الأسر حضوراً سياسياً وشعبياً
كبيراً. صحيح أنه لا "حماس" ولا أي جهة أخرى أعلنت مسؤوليتها، لكن
المواقف الإسرائيلية وماضي الحركة في عمليات الأسر والتبادل رسخت القناعة بمسؤولية
الحركة.
واعتبرت جهات متابعة أن "حماس" استغلت المصالحة الفلسطينية
للقيام بهذا العمل، وحملت قضية الأسرى بمسؤولية وأكدت التزامها بمشروع المقاومة،
وتحمّلت ردود فعل صهيونية كثيرة مثل اعتقال أكثر من 500 من كوادرها وعناصرها.
ومنحت عملية الأسر "حماس" وزناً سياسياً إقليمياً مهماً. وأثبتت الحركة
أنها قادرة على الفعل في أصعب وأعقد الظروف، وتستطيع خلط الأوراق، وأنها ليست
ضعيفة أو غائبة في الضفة الغربية رغم كل محاولات ضربها.
ونجح رئيس المكتب السياسي للحركة خالد مشعل في حواره مع قناة الجزيرة يوم
الاثنين 23 حزيران/يونيو الماضي في تقديم "حماس" بصورة وطنية شاملة
كحاملة للقضية الفلسطينية، وحريصة على الوحدة، ومتمسكة بالثوابت والمقاومة،
ومدافعة عن الإنسان والأرض.
إن عملية أسر المستوطنين الثلاثة لا تزال غامضة في كثير من تفاصيلها
ومحطاتها، لكنها مثّلت محطة مهمة في مسار القضية الفلسطينية، خاصة في هذا التوقيت
الإقليمي الصعب، وفتح اكتشاف نهاية المستوطنين مقتولين الحدث على مسار آخر بعد
قضية خطف المستوطنين للفتى محمد أبو خضير في القدس وقتله بهذه الطريقة الوحشية.
شهيد القدس
تحوّل الفتى البريء محمد أبو خضير إلى رمز وطني وإلى عنوان فلسطيني
جامع.. فهو إنسان فلسطيني بريء مسالم، فتى في مقتبل العمر، مقدسي، من حي شعفاط،
وُلد وتربّى وعاش في القدس، خُطف على أيدي مستوطنين مجرمين من دون مبرّر، وقُتل
بعدما عُذّب وأُحرق حياً.
قضية أبو خضير تلخص التراجيديا الفلسطينية، فكل فلسطيني هو أبو خضير..
لذلك تحوّلت دماء الشهيد إلى وقود أشعل الأرض الفلسطينية تحت أقدام الاحتلال، وأكد
الانتماء للأرض والهوية، ورصد الموقف السياسي لأغلب القوى، وجمع الفلسطينيين في
الداخل والخارج، وألهب روح المواجهة مع الاحتلال.
عوامل عدة جعلت من قضية أبو خضير تفتح مرحلة فلسطينية سواء كانت مؤقتة أو
طويلة:
-استمرار
الاعتداءات والانتهاكات الإسرائيلية.
-
التفاف فلسطيني واسع حول خيار المقاومة.
-
تعطل وفشل العملية السياسية التفاوضية.
-
ضعف السلطة الفلسطينية واقتناع الفلسطينيين بعدم تمثيلها لهم.
-
التطورات الإقليمية المتلاحقة وشعور الفلسطينيين بالأضرار اللاحقة بالقضية بسببها.
-
إصرار الفلسطينيين على عدم الخسارة أمام الاحتلال وضرورة تحرّكهم من منطق القوة
والكرامة.
اشتعال الموقف
للوقوف على حجم التحركات الشعبية الفلسطينية، يجب التوقف عند التفاصيل
الميدانية بدقة. فمنذ استشهاد الفتى أبو خضير شملت المواجهات مع الاحتلال في مدينة
القدس الأحياء والقرى والبلدات الآتية: باب الخليل في البلدة القديمة في القدس،
راس العامود، باب الجوز، شعفاط، سلوان، الشيخ جراح، بيت حنينا، الرام، العيسوية،
العيزرية، صور باهر، حيّ الصوّانة، حارة باب حطة، عناتا.
والقرى والبلدات والمدن في الأراضي المحتلة عام 1948: أم الفحم، الناصرة،
عرعرة في النقب، حيفا، يافا، شفا عمرو، عرابة، سخنين، تل السبع، طمرة، عكا، عين
ماهل، كفرمندا، رهط، عرابة، عبلين، الطيبة، يافة الناصرة، الطيرة، جسر الزرقاء،
إكسال.
وفي الضفة الغربية شملت: الخليل، جنين، بيت لحم، نابلس، سلفيت، قلقيلية،
طولكرم، طوباس، رام الله، البيرة، قلنديا، صوريف، بيت أمر، بيت كاحل، بني حارث،
النبي صالح، جالود، يطا، مخيم العروب.
وسجل عدد الإصابات كالآتي: 11 شهيداً و700 جريح.
وبلغ عدد المعتقلين حوالي 933، موزعين على المناطق الآتية: محافظة الخليل
(238) معتقلاً، ونابلس (109) معتقلين، وبيت لحم (91) معتقلاً، والقدس (84)
معتقلاً، ورام الله (66) معتقلاً، وجنين (65) معتقلاً، وطولكرم (29) معتقلاً،
وقلقيلية (20) معتقلاً، وطوباس وسلفيت وأريحا (21) معتقلاً، و(270) معتقلاً من
الأراضي المحتلة عام 1948.
حقائق سياسية
بعد هذه المعطيات الميدانية، نرى أن هذه التحركات أوجدت الحقائق التالية:
-
نحن أمام تحرّك فلسطيني شامل يجمع كل الفلسطينيين في الداخل والخارج.
-
نحن في مرحلة تحرّك هي أعلى من ردود فعل وأقل من انتفاضة ثالثة، لكنها قد تتطور
لتصل إلى انتفاضة ثالثة شاملة.
-
إننا أمام تحرّك وطني شامل، تنخرط فيه جميع القوى والشرائح الاجتماعية والمناطق،
وتذوب فيه المطالب الفئوية والشعارات الخاصة والأجندات الحزبية.
-
نحن أمام رزمة من الدوافع تجمع الهوية والانتماء والأسرى والشهداء والدفاع عن
الكرامة والحرية، والمقدسات، ما يعطي التحرّك زخماً أكبر.
-
إننا أمام اندفاعة شبابية اجتماعية مذهلة، تنخرط فيها قطاعات الشباب ضمن أهداف
وطنية.
- إن
هذه التحركات جاءت بعد شعور بالانتصار والاعتزاز الوطني الفلسطيني، تمثّل بأسر
وإخفاء وقتل ثلاثة من المستوطنين، وهو عمل ناجح يُضم إلى سجل المقاومة المشرفة.
- إن
التحركات الشعبية والانتفاضات الجماهيرية الواسعة المحتلة عام 1948 هي إنجاز سياسي
فلسطيني رفيع المستوى، ورسالة حضارية قوية، وتعبير عن انتماء وطني مشرف.
إلى أين تتجه الأحداث؟!
تنحصر التطورات في ثلاثة احتمالات:
توقف التحركات، أو استمرارها لوقت معيّن، أو ارتفاع وتيرتها لتصل إلى
مستوى انتفاضة واسعة ثالثة.
ولكل من هذه الاحتمالات أسبابه وحيثياته، لكن ما يجب أن نركّز عليه هو
المؤشرات التالية:
أولاً: إننا أمام تحركات شعبية جدّدت القضية الفلسطينية وأعادت لها
مكانتها في الداخل والخارج.
ثانياً: إننا أمام تحرّك يركّز على ثوابت القضية الفلسطينية وأولوياتها.
ثالثاً: إن هذه التحركات شملت المناطق المحتلة عام 1948 والضفة الغربية،
وتزامنت مع مواجهة عنيفة على جبهة غزة.
رابعاً: إن هذه التحركات تنطلق من مدينة القدس المحتلة، لتتسع وتصل إلى
مختلف المناطق. وانطلاق شرارة الثورة من مدينة القدس له خصوصيته الحضارية
والتاريخية والسياسية.
حرب مفتوحة
ليل الاثنين 7 تموز/يوليو وسّع العدو الصهيوني غاراته على قطاع غزة، وهي
استمرار للغارات والاعتداءات المتواصلة على القطاع. وكان العدو يهدف من وراء توسيع
دائرة الاعتداء إلى: الانتقام لأسر المستوطنين، وطمأنة الداخل الصهيوني، ومحاولة
إعادة الثقة بقدرات الجيش الصهيوني والأجهزة الأمنية، وتجاوز الأزمة السياسية داخل
الائتلاف الحاكم، وتحويل الأنظار عن جريمة قتل الفتى محمد أبو خضير، وترهيب حركة
حماس وقوى المقاومة في فلسطين وبالأخص في قطاع غزة.
تمادى الاحتلال في غاراته واعتداءاته، بعض تلك الغارات كان عبارة عن
غارات صوتية ذات طابع سياسي أكثر مما هو عسكري. وهو ما جعل ردّ المقاومة ينحسر في
إطار إثبات الصحوة والاستعداد والجهوزية، والدفاع عن الأرض والإنسان، وإفشال تحقيق
الأهداف.
لكن تصاعد وتيرة الاعتداءات لتصل إلى تواصل الغارات ومحاولات شلّ حياة
الناس، واستهدافها المدنيين، واستشهاد تسعة مقاومين من حركتي حماس والجهاد
الإسلامي، دفع قيادة حركة حماس إلى الردّ الواسع الذي تميّز بالآتي:
-
قصف صاروخي مكثّف بلغ خلال 48 ساعة ما يزيد عن 300 صاروخ.
-
ضرب المستوطنات المحيطة بغزة وإبلاغ العدو رسالة واضحة وقوية.
-
توسيع دائرة القصف ليصل إلى عمق 40 كيلومتراً، ويشلّ حياة أكثر من مليوني صهيوني،
ولتعلن حالة الطوارئ في المناطق الجنوبية.
-
تهديد بوصول القصف إلى عمق 80 كيلومتراً ويزيد، أي إلى تل الربيع وما بعدها.
من هنا أطلقت حركة حماس على عمليتها الواسعة "انتفاضة القدس"،
وهي ردّ مباشر وقوي على عملية "الجرف الصخري" التي بدأها الاحتلال.
إن ما يحصل اليوم في فلسطين من انتفاضة شعبية، وفي غزة من ردّ عسكري،
يأتي في إطار مسيرة الشعب الفلسطيني لتحرير الأرض وإزالة الاحتلال والتمسّك بالقدس
وحقّ العودة.
لقد دخلنا مرحلة من المواجهة ستكون صعبة بلا شكّ، لكنها تستكمل مراحل
الدفاع عن الأرض والشعب والمقدسات.
المصدر: المركز الفلسطيني للإعلام