قراءة في مسار العلاقات اللبنانية - الفلسطينية
أمين مصطفى
تكمن أهمية الحديث عن العلاقات اللبنانية
– الفلسطينية، في أنها تأتي في مرحلة دقيقة وحساسة من تاريخ الصراع مع العدو الصهيوني،
فالقضية الفلسطينية ومعها المنطقة كلها، باتت عرضة لرياح وعواصف دولية إقليمية تحاول
شطبها، وإطلاق العنان لمشاريع وخطط وبرامج تتيح للكيان الصهيوني، السيطرة ومزيدا من
التوسع، وفرض أمر واقع مغاير للمنطقة والحقيقة. وما "صفقة القرن" سوى إحدى
مظاهره، وذلك في ظل صمت دولي وعربي، وغياب للأمم المتحدة، وإدارة أميركية متغطرسة وضاربة
بعرض الحائط بكل الأعراف والقوانين والقرارات الأممية.
وإذا كان الفلسطينيون على رأس أولويات التهميش
والإلغاء، من خلال محاولات شطب حق العودة، وإنهاء دور "وكالة غوث وتشغيل اللاجئين
الفلسطينيين – الأونروا" وتهويد القدس، وضم أراضٍ واسعة من الضفة إن لم تكن كلها،
فإن لبنان هو في قلب العاصفة أيضا، باعتباره خط دفاع ومواجهة رئيس للقضية الفلسطينية،
ومركز ثقل في محور المقاومة المدافع عن الأرض والكرامة.
من هنا تأتي ضرورة الحوار والتفاهم والتفهم
اللبناني الفلسطيني، في المجالات كافة، ورسم استراتيجية ورؤية تعزز منطق الأخوة، لمواجهة
الاخطار المحدقة بالجانبين وبقية أقطار الأمة، والانتصار عليها.
العلاقات اللبنانية الفلسطينية متجذرة في
التاريخ، قبل وبعد نكبة العام 1948، وقد مرت بمسارات ومحطات عدة، واستعراض عناوينها
الآن هو للدلالة على عمقها وأصالتها.
المحطة الأولى
قبل الغزوة الصهيونية لفلسطين، كان اللبنانيون
يمتلكون أراضٍ في مختلف المناطق الفلسطينية، وينشطون في مجالات التجارة وشراء وبيع
العقارات وغيرها، وكانت اليد العاملة اللبنانية، تجد متسعا من فرص العمل، فيما كان
الفلسطينيون يقصدون لبنان للاصطياف والسياحة، لكن أثناء وبعد تنفيذ المؤامرة على فلسطين
والمنطقة، من خلال احتلال الصهاينة لجزء من فلسطين، باع اللبنانيون ممتلكاتهم – وهم
من عائلات معروفة – لسماسرة باعوها بدورهم للحركة الصهيونية، وقد قدرت مساحة تلك الأراضي
بحوالي 625 ألف دونم/ منها 200 ألف لعائلة سرسق في منطقة مرج بن عامر، و120 ألفا لعائلات
أخرى حول بحيرة الحولة.
المحطة الثانية
كانت لجوء آلاف العائلات الفلسطينية بعد
النكبة إلى لبنان، حيث توزعوا في مخيمات أنشأتها الأونروا، تمتد من الجنوب مرورا ببيروت،
وصولا إلى البقاع والشمال.
وكان هؤلاء اللاجئون يعتبرون أن وجودهم
مؤقت، وسيعودون عاجلا إلى وطنهم، وكانوا يرفضون بداية السكن في بيوت من حجر، مفضلين
الخيمة كعنوان مرحلي.
المحطة الثالثة
استفادة لبنان من الوجود الفلسطيني في شتى
المجالات، فنقل الأثرياء أموالهم إليه والتي قدرت حينها بحوالي 13 مليار دولار، وقد
فتحوا المصارف، وأقاموا المصانع والمعامل، وفتحوا المحلات التجارية الكبيرة، ونشطوا
في مجالات السياحة، وأسهموا في النهضة الثقافية والإعلامية والتربوية والترجمة والموسيقى
والغناء والفولكلور الشعبي، وقد برزت في كل هذه الميادين أسماء كبيرة منحت الجنسية
اللبنانية. وعلى الصعيد الزراعي شهد لبنان كذلك، تطورا ملحوظا، نتيجة عمل الخبرات والأيدي
الزراعية الفلسطينية في البساتين والمزارع اللبنانية.
خلال هذه الفترة من التعاون والعمل، نشأت
علاقات وصداقات عميقة بين الطرفين، أدت إلى المصاهرة، حيث سجلت دوائر ومراجع عقد الزواج
آلاف زيجات الفلسطينيين من لبنانيات، والعكس صحيح.
المحطة الرابعة
عانى الفلسطينيون في المخيمات الكثير من
الظلم والقسوة، في فترة الخمسينيات والستينيات، من قبل الأجهزة الأمنية الرسمية، وزج
بعشرات الشباب الفلسطيني في السجون، بسبب انتمائهم وأنشطتهم في صفوف الأحزاب السياسية،
وتعرضوا للتعذيب، ومنعوا من الاقتراب من الحدود الفلسطينية، ولم تكن هناك وسائل تواصل
تذكر بين جمعيات فلسطينية وأخرى لبنانية تنسق، أو ترسي صيغة للتعاون والتفاهم المشترك،
إلى أن ظهرت "منظمة التحرير الفلسطينية".
المحطة الخامسة
تمثلت بدخول الفدائيين إلى لبنان، فكانت
نقلة نوعية في هذه العلاقات، فعلى الصعيد الشعبي لاقت المقاومة الفلسطينية احتضانا
قويا، لما ترمز إليه من عمل لتحرير فلسطين، كما أنها جاءت سندا للقوى الوطنية والإسلامية
اللبنانية في وجه اليمين اللبناني، وقد انخرط الشباب اللبناني بالآلاف في صفوف الثورة
الفلسطينية، وتدربوا على حمل السلاح، وتشكلت لديهم آفاق عمل جديدة، وهنا كانت المقولة
الشهيرة: "وحدة المحرومين في وطنهم مع المحرومين من وطنهم".
تعمدت هذه العلاقة بالدم، على مدار حوالي
13 عاما، نفذ خلالها عشرات العمليات الفدائية ضد العدو وقد تواصلت حتى يومنا هذا.
المحطة السادسة
دخلت العلاقة اللبنانية الفلسطينية مرحلة
مختلفة مع انطلاق الشرارة الأولى وما بعدها للحرب الأهلية اللبنانية، التي حاول البعض
القاء تبعاتها على كاهل الجانب الفلسطيني، بينما رآى البعض الآخر أنها محاولة للهروب
من الحقيقة، إذ تعود جذور الأزمة الداخلية إلى ما قبل ذلك بكثير، وما الحرب سوى نتيجة
تراكمات كثيرة سابقة.
ورأت جهات رسمية لبنانية بوجود المقاومة
الفلسطينية خطرا عليها، ما تسبب بصدامات واسعة بين الطرفين،
ومع ذلك اضطر لبنان إلى توقيع اتفاق القاهرة
الذي أدى إلى ضرورة التعايش الرسمي مع المقاومة الفلسطينية.
المحطة السابعة
الاجتياح "الإسرائيلي" العام
1982
تعرض لبنان لاجتياح واسع وصل إلى ثاني عاصمة
عربية وهي بيروت بعد القدس، وقد واجهت المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية
وبداية طلائع المقاومة الإسلامية، ذلك الاجتياح بوحدة متكاملة، لكن الضغط العسكري الجوي
والبري والبحري الصهيوني، إضافة إلى الضغط الدبلوماسي الأميركي الذي مثله فيليب حبيب
في حينها، من خلال التنسيق مع الحكومة اللبنانية، أدى إلى خروج "منظمة التحرير
الفلسطينية" من لبنان، حيث وزعت عناصرها على تونس، اليمن، قبرص، السودان وغيرها.
أعقب هذا الخروج محاولات انتقام من الفلسطينيين،
تمثلت بمجزرة صبرا وشاتيلا، التي استشهد نتيجتها عشرات العائلات الفلسطينية واللبنانية،
برعاية وزير الحرب آنذاك آرييل شارون.
المحطة الثامنة
انطلاق المقاومة الوطنية اللبنانية، بمشاركة
عناصر وقيادات فلسطينية بقيت في المخيمات، ما أدى إلى إجبار الاحتلال على الانسحاب
من بيروت والجبل والانحسار في منطقة الشريط الحدودي.
وقد شهدت هذه الحقبة ظهور حزب الله من خلال
مجموعة من العمليات الاستشهادية بشكل سري.
ويعود الفضل الأساسي لبروز كل القوى المقاومة
اللبنانية، إلى مدرسة المقاومة الفلسطينية، تدريبا ودعما ماديا ومعنويا، وتسليحا وثقافة.
المحطة التاسعة
احتفظت المقاومة الفلسطينية، من خلال أحزابها
وجبهاتها المختلفة، بالسلاح داخل المخيمات، على أن تكون مهمته الدفاع عن النفس، ضد
أي عدوان صهيوني محتمل.
وتم التعاون مع الأجهزة الرسمية، بالتفاهم
على عدم التدخل في شؤون لبنان الداخلية، وحصر النشاط والاهتمام في العمل من أجل تحرير
فلسطين، والقيام بأنشطة سياسية تخدم القضية وإعطاء الفلسطيني حقوقه المدنية كاملة،
وهذا من شأنه أن يوفر الاستقرار، ويعزز العلاقات المشتركة، بخاصة أن كل نتاج الفلسطيني
والتحويلات المادية الخارجية إلى الأهالي تصب في مصلحة لبنان ودعم اقتصاده.
المحطة العاشرة
وضع مجموعة العمل اللبنانية حول قضايا اللاجئين
الفلسطينيين، في إطار لجنة الحوار اللبناني – الفلسطيني، والمؤلفة من القوى والأحزاب
اللبنانية كافة، رؤية استغرق العمل فيها مدة عامين، وإيجاد مساحة تفاهم لبنانية عميقة
لإرساء قواعد وأسس للتعامل مع الفلسطينيين المقيمين في لبنان، على نحو يحترم حقوقهم
في حياة كريمة بانتظار عودتهم إلى وطنهم، وأبرز ما جاء في هذه الرؤية:
رفض التوطين، ومعالجة مسألة السلاح داخل
وخارج المخيمات، والتأكيد على حق العودة، والتضامن مع النضال الفلسطيني من أجل ذلك،
ومنح اللاجئ الفلسطيني حق العمل، والحماية الإجتماعية، وعدم حصر النظرة للمخيمات على
الجانب الأمني، وتجاوز ذلك ليشمل الجوانب السياسية والاقتصادية والحقوقية، مع ضمان
الأجهزة اللبنانية بحماية اللاجئين الفلسطينيين.
نختم لنقول، إن العلاقات اللبنانية – الفلسطينية،
يجب أن تقوم على أسس تسد كل الثغرات القائمة أو المفتعلة بخاصة أن المتربصين الدولييين
والإقليميين والمحليين كثر، غايتهم غرس أسافين الخلاف بين الجانبين، يربك لبنان، ويغرق
الفلسطيني في صراعات جانبية.
لذا على الجميع الترفع عن الصغائر، وإدراك
مخاطر ما يرسم للمنطقة وقضيتها المركزية، فبالوعي والتفاهم والحوار الموضوعي الجاد
قادرون على معالجة كل المشاكل، والتفرغ صفا واحدا لكل التحديات.
المصدر: القدس للأنباء