القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الأحد 24 تشرين الثاني 2024

قصة أغلى أسير فلسطيني في اجتياح عام 1982

قصة أغلى أسير فلسطيني في اجتياح عام 1982

بقلم: ياسر علي

أغلى أسير فلسطيني، لم تفاوض عليه الفصائل الفلسطينية، بل فاوضت عليه امرأة.. هذا الأسير الذي توفي مؤخراً، والذي كان وجيهاً في عائلته، فكان الحزن عليه كبيراً رغم إصابته بالجلطات الدماغية المتتالية، التي تسببت له بالشلل طوال 19 عاماً قبل وفاته. هذا الأسير الذي لم يخبر أحداً بقصصه وتاريخه، كان متواضعاً لا تسمع منه شيئاً، بل عنه، مما يروي أصدقاؤه.

كانت له قصة طويلة.. طويلة في وصف المشاعر والتفاصيل، لكن مدّتها لا تتجاوز شهراً واحداً فقط. وقد حدثت بين شهريْ حزيران (يونيو) وتموز (يوليو) من العام 1982، وذلك في أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان. كنت قد التقيت هذه المرأة سابقاً وحاولتُ استنطاقها فلم تتكلم.. فهي لا تتحدث بالموضوع تحت الضغط، رغم أنها حدّثتني بالتفاصيل في جلسات غير رسمية، قلت لها سأنشر هذا الكلام. قالت: سأنكر أني قلتهُ لك!!

القصة تستحق أن تُسجّل في رواية. هذه المرأة التي صمدت قرب محاور القتال على تخوم مخيم البرج الشمالي الذي يبعد عن حدود فلسطين 25 كلم فقط في جنوب لبنان. صمدت خلف (أبطال الآر بي جي) الذين دمّروا على باب المخيم عدداً من الدبابات فقتلوا جنرالاً وأسروا ضابطاً وجندياً أحدهما سليم الجسم يحمل اسماً عربياً والآخر محروق بشكل كبير. فجاء المقاتلون بالأسيرين إلى ملجأ تحت بيتها.

لم تخف منهما، ولم تنتقم، بل قامت بتقديم الطعام والشراب والدواء لهم، وكانت تغيّر للمحروق الضمادات على جروحه وحروقه، وتسقيه الماء بخرقة قماش تضعها مبللة على شفتيه (هل تذكرتم فيلم "المريض الإنجليزي"؟).. حافظت بكل ما تستطيع على حياة الأسيرين. منعت بعض المقاتلين الغاضبين من اقتحام مقر اعتقالهم تحت بيتها. كان ذلك بالاتفاق مع "بلال الأوسط" قائد القطاع الأوسط في القوات المشتركة قبل الاجتياح عام 1982، والذي سيُستشهد بعد هذه الحادثة بأربعة أشهر داخل المناطق المحتلة.

عند انسحاب المقاتلين، قُتل الضابط الأسير، فقاموا بدفنه في أرض عند مدخل المخيم، وأُلقيت على مكان دفنه النفايات والثياب القديمة وتم إحراق كل ما ألقي عليه، بحيث اختفت آثار وملامح المكان السابقة. أما الأسير المحروق، فأخذه المقاتلون معهم أثناء انسحابهم من المخيم عبر الجبال المحيطة بهم، وكانت المجموعة بقيادة ابن عم هذه المرأة المذكورة وقطعوا في الجبال نحو 30 كلم، حتى وصلوا إلى منطقة تدعى الغازية، وهناك فارق الجندي المحروق الحياة، فاضطرت المجموعة إلى إلقائه في بئر قريبة من المكان، وتابعوا سيرهم باتجاه صيدا التي لم يكن المعتدون قد احتلوها بعد.

ودخل جنود الاحتلال إلى المخيم يبحثون عن الأسرى، فلم يجدوا أحداً منهم في المخيم، ولم تتمكن كلابهم البوليسية من معرفة مكانهم. لكن مخابراتهم دلّتهم على هذه المرأة الفلسطينية، ومعهم إخبارية أنها آوت الأسرى في بيتها، لكنها أصرّت على ردّ واحد: أخذهما المقاتلون معهم. في النهاية تمكّن العدو من إلقاء القبض على المجموعة المنسحبة ومعهم قائد المجموعة (ابن عمها)، ووجدوا مكان الأسير المحروق في البئر، وتأكدوا أن الضابط الأسير مقتول وما زالت جثته في المخيم.

قالت: جاؤوا هذه المرة متأكدين من أنه مدفون في مكان ما في المخيم وقالوا لنا، نحن نساء الحارة: ابن عمكنّ موجود لدينا في سجن "عتليت"، ولا أحد غيركنّ يعرف مكان الضابط المفقود. دلّونا على مكان الجثة، نعيد لكم أسيركم. وإذا لم نجد الجثة فلن تجدوا ابن عمكم عندنا.. في تهديد مبطّن بالقتل.

صمدت النساء، وتشاورن فيما بينهن، منهنّ من تصرفت بعناد، ومنهن من تصرفت بحكمة.. وفي النهاية جرى تبادل للأسرى بين سيدات الحارة وجيش الاحتلال، وتمّ الكشف عن جثة الضابط، فجاء الجنود يحفرون في المزبلة (هل قلنا مزبلة التاريخ؟!) حتى عثروا على الجثة. وفي مساء ذلك اليوم تم إحضار الأسير الفلسطيني وتسليمه لهم. وكانت تلك أقلّ عملية تبادل، بالأحرى كان ابن عمّ النساء أغلى أسير فلسطيني في تاريخ صفقات تبادل الأسرى مع العدو.

المصدر: مدونات الجزيرة