القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
السبت 30 تشرين الثاني 2024

كيف نتجنب مصير منظمة التحرير الفلسطينية

كيف نتجنب مصير منظمة التحرير الفلسطينية

محمد سيف الدولة

تسود حالة من القلق والترقب داخل أنصار فلسطين على امتداد الوطن العربي، خوفا من أن تنجح الضغوط الإسرائيلية والدولية والعربية التي تمارس على المقاومة الفلسطينية في كسر وإخضاع إرادتها، على غرار ما حدث مع قادة منظمة التحرير الفلسطينية منذ ربع قرن وأدى إلى توقيعها لاتفاقيات أوسلو والاعتراف بإسرائيل والتنازل عن أرض فلسطين 1948 وعن الحق في المقاومة والكفاح المسلح.

فلقد كانت منظمة التحرير منذ تأسيسها في 1964 حتى 1987 حركة ثورية خاضت معارك بطولية ضد العدو الصهيوني، وحازت دعم وتأييد كل الشعب العربي بكل تياراته وقواه.

فكيف تم كسرها وإخضاعها وترويضها هكذا؟

هذا ما سنحاول أن تناوله في هذه الورقة، بهدف التذكر والتأمل والتفكر حتى نتجنب ذات المصير.

وفي محاولة للإجابة، سأركز على خمسة عوامل رئيسية، أدت مع عوامل أخرى إلى انهزام وتراجع الأولين، التي قد تؤدى لا قدر الله إلى هزيمتنا جميعا جيلا وراء جيل إن لم نتداركها:

العامل الاول:

كان هو الحظر المقدس المفروض على الشعب العربي خارج الأرض المحتلة من الاشتراك في القتال ضد العدو الصهيوني. وهو حظر قديم يعود إلى نهايات الحرب العالمية الأولى، وما قبلها عندما قام المستعمرون المنتصرون في الحرب، بتقسيمنا وتوزيعنا فيما بينهم كغنائم حرب، وقاموا بصناعة وتأسيس مؤسسات قطرية/إقليمية سموها دولا ذات سيادة، لتحمى هذا التقسيم وهذه التجزئة بالحديد والنار، فهذه دولة مصر وتلك دول سوريا ولبنان وفلسطين. . الخ

وسلحوا هذه الدول الإقليمية بآلاف القوانين والإجراءات لحماية هذا التقسيم ومنع التوحد مرة أخرى، من أول بطاقات الهوية والأناشيد الوطنية والمناهج التعليمية، ومرورا بالأعلام مختلفة الألوان والتصميمات، ثم قوانين الجنسية وقوانين الأجانب التي حولت كل عربي إلى أجنبي يعامل معاملة الخواجة في الأقطار الأخرى. ثم الدساتير التي تحدد حقوق وواجبات المواطن فتحجبها ضمنيا عن العربي الآخر، وتحدد قواعد السيادة على ارض القطر، وتجرم انتهاكها من العرب الآخرين. ثم الحدود التي وضعوا عليها حرسا، لتعتقل وتطارد كل من يتجرأ من مواطنيها أو من العرب" الأجانب" من دول الجوار في الدخول والخروج إلا بإذنها وتصاريحها. وقد تطلق عليهم النيران وترديهم قتلى، ان لم يستجيبوا إلى نداء التوقيف الشهير " قف من أنت ".

ولم يكتفوا بذلك، فأخذت هذه الدول العربية، تسن من القوانين الداخلية ما يحرم حمل السلاح على المواطنين في مواجهة العدو، وتقصره على قواتها المسلحة، وتوقع عقوبات مشددة على من يخالف وينتهك هذه القوانين.

وحين استسلمت الدول العربية للعدو وقررت ان تترك له فلسطين، لم تسمح لمواطنيها بالاحتفاظ بمواقفهم المبدئية والتعبير عنها، فأخذت في مطاردتهم وتصفيتهم اعتقالا وتجريما وسجنا.

وفي النهاية، نجحت بالفعل هذه التجزئة الظالمة وحُماتها من الدول العربية، ولو إلى حين، في وأد حركة الدعم الشعبي العربي لفلسطين، أو إضعافها وتحجيمها، وحرمانها من المشاركة في القتال. وهو ما أدى إلى عزل المقاومة الفلسطينية، وتركها وحيدة محاصرة، في مواجهة آلات الحرب الصهيونية المدعومة أمريكيا ودوليا.

وكان من نتيجة ذلك أن انتصر العدو وساد وتوسع واستقر وكاد أن يصبح أمرا واقعا يصعب إنهائه وتصفيته.

انتصر العدو قليل العدد، قليل الشأن على أمة كاملة عريقة طويلة عريضة، بدون أن يأخذ شعبها فرصة حقيقية في القتال.

صحيح أننا في 1973، قد شهدنا درجة من التعاون العربي في المعركة، الذي كان له بالغ الأثر، ولكن سرعان ما تحطم وعادت كل الدول العربية إلى حساباتها القطرية الإقليمية المحدودة والمعادية بالضرورة لمصالح الأمة الواحدة.

كان وسيظل هذا العامل، هو العامل الرئيسي وراء عجز كل حركات المقاومة الفلسطينية على امتداد قرن من الزمان، عن تحرير فلسطين من الصهاينة.

وبالتالي فإن توحيد الشعب العربي في المعركة ضد العدو، هو شرطا لازما لتحرير كامل التراب الفلسطيني.

قد يطول هذا الأمر أو يقصر، وقد نمل من تكرار هذه الحقيقة فننصرف عنها عاما أو عقدا أو قرنا. ولكن فلنكن على يقين كامل

إنه بدون تحقيق هذه الوحدة لن تتحرر فلسطين، بل قد تضيع إلى الأبد.

قد يقال إن هذا كلام كبير وصعب وبعيد، وانه يتطلب جهودا هائلة تفوق الجهود اللازمة لتحرير فلسطين ذاتها، وكما يقول المثل الشعبي " موت يا حمار ". وقد يقال إنك تضع شرطا مستحيلا. ونحن نرد ونجيب: انه الشرط الصحيح الوحيد، ففلسطين لن تتحرر أبدا من داخلها فقط، ولم يحدث على مر العصور أن تحررت إلا بقتال عربي إسلامي فلسطيني موحد.

العامل الثاني:

هو انسحاب الدولة المصرية من الصراع بعد 1973 بموجب اتفاقيات كامب ديفيد. وسرعان ما لحق بها على مراحل، العديد من الدول العربية، مهرولة إلى الانسحاب من المعركة هي الأخرى، في اتجاه نهج طالما تبنته سرا، ولكنها لم تجرؤ على إعلانه والإفصاح عنه من قبل.

ونحن نعلم جيدا من التاريخ القديم والحديث انه لا حرب بدون مصر، ولا نصر بدون مصر.

ومنذ تم هذا الانسحاب، ضُرب خيار الكفاح المسلح كطريق لتحرير الأرض المحتلة، في مقتل. فدخلت القوات الصهيونية بعد توقيع اتفاقية الصلح المصرية الإسرائيلية بثلاثة سنوات إلى لبنان وطردت القوات الفلسطينية بعد صمود دام 83 يوما وقامت بنفيهم إلى أقصى بقاع الأرض العربية، تحت نظر وصمت ومباركة الدول العربية جميعا. لم يحمهم أحد، لم يشاركهم أحد في القتال، لم تنطلق رصاصة عربية رسمية واحدة. وتركوهم لمصيرهم تحدده لهم إسرائيل وأمريكا.

وهناك في تونس، بالمنفى، تم تسويتهم على نار هادئة، بحملات من التجاهل والمحاصرة والاتهام بالإرهاب، ومقاطعتهم ورفض إشراكهم في أي عمليات سياسية أو مفاوضات إلا إذا اعترفوا بإسرائيل. فصمدت القيادة قليلا في البداية، ورفضت سنة وسنتين، ولكن انكسرت إرادتها فى النهاية وخضعت وقررت قبول الاعتراف بإسرائيل والتنازل لها عن فلسطين ووقعت معها اتفاقيات أوسلو وأخواتها.

إن الشرط الثاني لتحرير فلسطين هو استعادة مصر وتحريرها من كامب ديفيد. كمقدمة لاستعادة باقي الدول العربية الأخرى إلى ساحة المعركة.

العامل الثالث:

هو الخديعة الرسمية العربية الكبرى، للفلسطينيين التي تمت عام 1974 في مؤتمر القمة العربية، والتي تم تأسيس كل ما تلا ذلك بناءً عليها.

فلقد اجتمع ممثلو الدول العربية حينها، وقرروا ان منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، فيما ظهر وقتها انه قرار يستهدف الدفاع عن استقلال المقاومة الفلسطينية وعدم التدخل في شئونها الداخلية وتحريرها من الضغوط الرسمية العربية التي عانت منها كثيرا.

ولكن الحقيقة الكامنة وراء هذا القرار كانت هي انسحاب كل الدول العربية رسميا من الصراع ضد العدو، وتخليص أنفسهم ونفض أيديهم من أي مسئولية قتالية عن تحرير فلسطين، والاكتفاء بالدعم السياسي والمادي. فلقد باعوا القضية كما يقال. وقاموا بتلبيس وتدبيس م. ت. ف والفلسطينيين وحدهم بهذه المسئولية كاملة، وهم وشطارتهم.

ولقد فرحت القيادة الفلسطينية بهذا القرار في البداية، ولكنها اكتشفت بعد برهة انه تم توريطها منفردة في مواجهة عدو يفوقها ويتفوق عليها في كل شيء. وبالفعل ومع توالى الأحداث انسحب الجميع وبقيت المنظمة، فانهزمت، فاستسلمت.

تكرر هذا الغدر العربي كثيرا؛ في تل الزعتر 1976، وفى لبنان عام 1982، وفى تونس من 1982 ـ 1993، وفى الضفة وغزة أيام الانتفاضة الثانية 2000ـ 2004. والآن يتكرر مع الجيل الجديد من المقاومة 2007 ـ 2014، وربنا يستر.

إن المطالبة بالانفراد بتمثيل فلسطين وتحريرها هو فخ كبير.

العامل الرابع:

هو عزل المقاومة عن الشعب العربي، فطوال كل هذه العقود كان أجهزة امن الدول العربية، تحظر على رجال المقاومة الفلسطينية أى تواصل مع القوى الشعبية العربية، فمحظور عليهم الاتصال بهم أو التنسيق معهم أو ممارسة أى عمل سياسي في أي قطر عربي. وإلا كان العقاب شديدا موجعا، كالقبض والاعتقال والترحيل والتعذيب والتشهير.

ورويدا رويدا تعلم القادة الفلسطينيون الدرس، وتابوا وأنابوا، وأغلظوا الأيمان أنهم لن يتدخلوا في الشئون الداخلية للدول العربية، واختاروا أن يدخلوا الأقطار العربية عبر البساط الأحمر في صحبة وحراسة ورقابة الرسميين العرب. فانفصلوا مكرهين ومرغمين عن القوى الوحيدة التي تدعم قضيتهم بصدق وإخلاص وهي قوى الشعب في الأرض العربية.

وعلى الجانب الآخر لم تلتزم الدول العربية وأنظمتها وحكامها بالاتفاق على عدم التدخل في شؤون فلسطين. فتدخلوا تارة بالضغط الصريح لإرغامهم على إلقاء سلاحهم والدخول في عملية التسوية والتنازل. وتارة أخرى بالضغط الضمني بانسحابهم جميعا بربطة المعلم من ساحة المعركة، لتختل موازين القوى بشدة، فينهزموا، ويستسلموا.

إن البساط الأحمر العربي لن يحرر فلسطين، بل سيسعى ويعمل طول الوقت على تجريدها من القدرة على المقاومة، ولا بديل إلا بالالتحام بالشارع العربي، ومشاركته همومه ومعاركه وقضاياه، ليشاركنا معارك المقاومة والتحرير. ففي النهاية كلنا ضحية لقاهر واحد هو هذا النظام الرسمي العربي.

العامل الخامس:

هو سقوطنا جميعا خارج فلسطين فى دوامة همومنا القطرية، التي تشغل بعضنا طول الوقت أو تشغل معظمنا معظم الوقت؛ تشغلنا عن استمرار المتابعة والمشاركة فيما يتم داخل الأرض المحتلة، وفيما يتم في ساحات الصراع المتعددة ضد المشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة.

ولنضرب مثلا على ذلك بالاعتداءات الصهيونية المتكررة على غزة 2008 -2012، فطوال أيام العدوان وبسبب عدد الشهداء وكمية الدماء التي كنا نراها يوميا على شاشات التلفاز، كنا في القلب من المعركة غاضبين، متظاهرين، ضاغطين.

ولكن بمجرد أن تتوقف الحرب، ننصرف جميعا إلى حال سبيلنا، ونعود إلى سابق قضايانا وهمومنا القطرية الداخلية، ونترك المقاومة وحيدة فى اشد المراحل حرجا وهي مرحلة تسويات ما بعد الحرب التي هي أشد خطرا من الحرب ذاتها، ففيها يتحدد مصير القضية لعقود مقبلة.

نتركها وحيدة في مواجهة الضغوط الأمريكية والصهيونية والدولية والعربية، داخل الغرف المغلقة وعلى موائد المفاوضات، يحاولون أن ينتزعوا منها ما لم ينجحوا في انتزاعه خلال الحرب، وهو الاعتراف بإسرائيل والتنازل عن فلسطين وإلقاء السلاح والتخلي عن المقاومة التي أسموها إرهابا.

إن الدعم الدائم والمستمر وغير الموسمي لقضية فلسطين، والربط طول الوقت بين مشاكلنا الداخلية وبين قضية التحرير، هي ضرورة يجب أن نؤكد عليها ونتمسك بها.

فما يحدث لنا هنا وما يحدث لهم هناك ليست إلا مخرجات وتفريعات لعدوان غربي أمريكي صهيوني واحد على كامل الأمة. وأي فصل بينها يوقعنا جميعا في دوائر الهزيمة في كل القضايا وفى كل الساحات.

كان لهذه العوامل الخمسة، مع عوامل أخرى، بالغ الأثر في إضعاف وحصار وانهزام القيادة الفلسطينية على امتداد أكثر من ثلاثة عقود. وهي عوامل ما تزال قائمة، بل أصبحت أكثر قوة وتأثيرا على الأجيال الجديدة من المقاومة، بالذات فى السنوات القليلة الماضية، وعلى الأخص بعد المستجدات الأخيرة في الجوار العربي.

تبقى ملاحظة أخيرة وهي ضرورة التأكيد على أن الاستسلام للعدو والخضوع له والتنازل له عن فلسطين، لا يبرره شيئا على وجه الإطلاق. فهناك كثيرون من نفس ذلك الجيل 1964/1987 صمدوا وواصلوا الكفاح، أو على أضعف الإيمان انسحبوا في صمت، واعترفوا بهزيمة مشروعهم السياسي، ولكنهم لم يستسلموا كما فعلت القيادات الحالية للسلطة الفلسطينية.

فالاستسلام يتطلب تكوينا ذاتيا وشخصيا من نوع خاص، لا يتوفر إلا في أردأ العناصر في أي شعب أو حركة أو جماعة.

كل هذا صحيح، ولكن تظل العوامل التي تناولناها، هي عوامل إضعاف وكسر وإخضاع لقوى المقاومة وإرادتها، أيا كانت منطلقاتها المبدئية أو العقائدية.

وأي تجاهل لهذه العوامل والأسباب، والتقاعس عن مواجهتها، والاكتفاء فقط بالرهان على الصلابة "اللانهائية" للأخوة في الداخل، هو لعب بالنار، ومشاركة في الضغوط والحصار.

وفى النهاية أتصور أن الخلاصة هي: إن وحدة المقاومة العربية في مواجهة العدو. واسترداد مصر من كامب ديفيد، والأردن من وادي عربة، والسلطة الفلسطينية من أوسلو، والضغط على النظام الرسمي العربي للعودة مرة أخرى إلى تحمل مسئولياته في تحرير فلسطين وفى الاشتباك ضد المشروع الصهيوني الأمريكي. والالتحام مع المواطنين البسطاء وقواهم الوطنية ومشاركتهم همومهم وقضاياهم والبعد عن البساط الأحمر. والربط بين مشكلات وقضايا الأمة الواحدة، هي خيارات أساسية في الطريق إلى تحرير الأرض المغتصبة. والنجاة من السقوط فيما سقط فيه الأولون. وهو طريق طويل وشاق وملئ بالعقبات الهائلة، ويحتاج إلى خطط عمل كثيرة ومعقدة، ولكنه يظل هو الطريق الوحيد الممكن والمضمون.

والله أعلم.

موقع عربي