القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي

لا تفهموهم خطأ.. طفح الكيل ومن حقهم أن يثوروا

لا تفهموهم خطأ.. طفح الكيل ومن حقهم أن يثوروا

صلاح صلاح

زرت مخيم نهر البارد، قبل أيام، لتقديم التعازي بوفاة أحد الاصدقاء، للمرة الاولى، بعد ان تعرضت بيوته للخراب والدمار والسلب والنهب وتشرد سكانه وما زالوا منذ أربع سنوات. كنت قبل ذلك أزوره باستمرار أشارك سكانه في مهرجاناتهم وتظاهراتهم واحتفالاتهم ومسيرات شهدائهم، منذ أن كان «ينتشر في المخيم 470 كوخاً من الطين والقصب و1000 خيمة يعيش فيها 6400 نازح» يشكون من «أمراض الربو والسل والتيفوئيد وشلل الاطفال واليرقان والجدري والدسنطاري».

بكدهم وتعبهم وعرق جبينهم، طوّر أبناء المخيم وضعهم الاقتصادي والاجتماعي والسكني، وبسبب ضيق مساحة المخيم التي لا تزيد عن 192 ألف متر مربع، وزيادة عدد سكانه (حوالى 35 ألفاً) واكتظاظ أبنيته بحيث لا تدخل الشمس نسبة كبيرة منها، كما في كل المخيمات الأخرى، فقد اشترى بعضهم بما وفره من تعبه وقوت أولاده قطعة أرض، بشكل شرعي وقانوني، ليبني فوقها بيتاً أكثر ملاءمة للسكن، لكون مساحات الاًرض التي جرى شراؤها ملاصقة تماماً للمخيم وامتداداً له وسميت «المخيم الجديد».

كان هذا المخيم من أكثر المخيمات هدوءاً واستقرارا، وأكثرها انتعاشاً في وضعه الاقتصادي وذلك لأربعة أسباب أساسية:

1- خرّج عدداً كبيراً من الشباب المؤهلين الذين توفرت لهم فرص عمل خارج لبنان مكّنتهم من مساعدة ذويهم.

2- نجاح السكان بإقامة علاقات تجارية مع المحيط اللبناني وفرت قدراً من الثقة وحسْن المعاملة يفتخر بها الجميع لبنانيين وفلسطينيين، ولم يحصل أي إشكال يذكر يعكّر صفو العلاقات المتينة التي بنيت بينهم على مدى عشرات السنين.

3- الطريق الدولي من طرابلس إلى سوريا كان يمر من وسط المخيم، ما نشّط عملية التجارة.

ويعطى شهادة إضافية لحسن سلوك ومعاملة سكان المخيم، حيث لم يحدث أي إشكال يُذكر على الطريق العام طيلة عشرات السنين قبل أن يفتح أوتوستراد خارجه.

4- نهر البارد من المخيمات القليلة جداً التي لم تتعرض بيوتها للقصف الاٍسرائيلي، ولم يُدمر أي من أحيائها نتيجة الصراعات والحروب التي تعرّضت لها مخيمات بيروت والجنوب طيلة سنوات عدّه.

كزلزال يحدث فجأة، حرب دمرت كل شيء (1698 مبنى، 1500 محل تجاري، 550 آلية)، شرّدت 6 آلاف عائلة ليتعرف ويعيش من لم يعانِ نكبة 1948 معنى النكبة، سياسياً وأمنياً واقتصادياً واجتماعياً وإنسانياً ونفسياً، عام 2007.

يقسم المخيم أمنياً إلى ثلاثة مربعات، فمن يرغب الدخول إلى أيٍّ منها يحتاج إلى تصريح من مخابرات الجيش في المنطقة، أيْ ان الدخول إلى المربعات الأمنية الثلاثة يحتاج إلى ثلاثة تصاريح. أحد هذه المربعات المخيم القديم الذي دُمِّر كلياً وأًُزيلت أنقاضه، وأكد المركز الوطني لنزع الألغام منذ حزيران 2009 خلوه من الألغام. وغير مسموح لمن كانوا يسكنونه طيلة 59 سنة أن يدخلوه.

دخلت المخيم الجديد، بظرف استثنائي، بعد انتظار 40 دقيقة على الحاجز. أخِذت ومن معي هوياتنا للتأكد من المغادرة. المخيم الذي أعرفه وتجولت في أزقته غير موجود. أصدقائي ورفاقي الذين اعتدت أن أزورهم في بيوتهم ومكاتبهم غادروا للجوء في مكان آخر. من التقيت بهم يروون قصصهم بمرارة وحرقة هي نفسها تسمعها، مع إضافات من كل شخص من أبناء المخيم الـ35 ألفاً. نقلت وسائل الاٍعلام القليل وما زال الكثير يختلج في الصدور ويعذّب. لا أريد أن أكرر ما تحمله من إزعاجات، بل أرى أن الأسئلة الكثيرة المكبوتة عند الناس، وبدأت تظهر إلى العلن، يجب على المسؤولين وجميع المعنيين فلسطينيين ولبنانيين الوقوف عندها وتوضيحها وإعطاء أجوبة مقنعة حولها، منها وأهمها:

- لماذا التناقض بين ما يقوله المسؤولون اللبنانيون على أعلى مستوى وبين الممارسة العملية؟ يقول المسؤولون:

«أبناء مخيم نهر البارد شركاء مع الجيش في تحقيق الانتصار على الإرهابيين («فتح الإسلام») وتعاطوا إيجاباً في إخلاء المخيم». لكن في الممارسة يتم التعامل معهم بشكل عدواني وحاقد: الحواجز والمعاملة الاستفزازية، التصاريح، الحصار، تشغيل مخبرين، بدعة ما يسمى «الأمن المجتمعي» الذي تخصص له 5 ملايين دولار وفتح مخافر داخل المخيم إلخ..

«إعادة بناء المخيم حتمية وعودة سكانه إليه مؤكدة». كان المفترض أن يتم ذلك في حدود ثلاث سنوات وها هي السنة الرابعة ولم يتم عودة أي من أبناء المخيم إلى بيته، ببطء السلحفاة.

- لماذا لم يتم التعامل مع ظاهرة «فتح الإسلام» في مخيم نهر البارد كما جرى مع مثيلاتها في المناطق اللبنانية؟ جماعة «فتح الإسلام» جزء وامتداد لنفس الظاهرة في الضنية وفي طرابلس. وقد اتبع الجيش طريقة الصواب عندما تصدى لهم كظاهرة وحرص على حياة المواطنين، في حين أنه تعامل وما زال مع أبناء نهر البارد وبيوتهم وممتلكاتهم وكأنهم جميعهم «فتح الإسلام». علماً ان المعنيين يعرفون أن جماعة «فتح الإسلام» كانت منبوذة في المخيم، وبشهادة أبنائه أن ستة فقط من سكانه التحقوا بهذه الفئة الإرهابية التي تضم مئات اللبنانيين والسعوديين والسوريين وغيرهم.

والحديث على كل لسان حول الجهة اللبنانية المتنفّذة التي كانت تمولهم شهرياً، وسهّلت انتقالهم من مناطق أخرى إلى داخل المخيم.

لماذا جرى تجاهل هذه الشائعات التي أصبحت حقائق ويُحمّل الفلسطينيون مسؤولية «فتح الإسلام»؟ والبعض يتساءل بشكل أكثر حدة ومباشرة: لو أن أبناء المخيم يؤيدون «فتح الإسلام» أو يدعمونهم أو يحتضنونهم هل يغادرون المخيم أم يقاتلون بجانبهم؟ وإذا قاتلوا معهم فهل ستنتهي الأمور إلى ما انتهت إليه؟

- استطراداً لما سبق، لماذا لا يزال المعتقلون من أبناء نهر البارد خلال الحرب على مخيمهم في السجون حتى الآن، بدون أن توجه إليهم أي تهمة وبدون تقديمهم للمحاكمة ليفصل القضاء بإدانتهم أو براءتهم.

- ما المقصود «بجعل مخيم نهر البارد نموذجاً للمخيمات الاخرى»؟ هل بتحويل المخيمات إلى ملكية للدولة تتحكم هي بساكن البيت كما ينص المشروع المسرّب للفصائل واللجان الشعبية؟ أم بإحكام القبضة الأمنية كما يحصل الآن: بالحصار، والرقابة الأمنية، أو الاستدعاءات للتحقيق والمحاكمة لكل من يجرؤ على الشكوى من الظلم. إلخ...?

- السؤال الكبير من المستفيد من هذه السياسة الظالمة؟ وفي هذه السياسة قدرٌ كبيرمن العنصرية وتعكس حقداً تجاه الفلسطينيين، ليس فقط غير مبرر، بل يولّد تراكمات خطيرة ليست لمصلحة الفلسطيني ولا اللبناني، منها:

إحداث شرخ في علاقات - الأخوة - بيننا. فلسطينييون ولبنانيون نعيش على أرض واحدة - رغماً عنا - من المصلحة ان نبحث ونعمل على إيجاد عناصر توفّر مناخ التعايش الإيجابي. ليس من الحكمة قطع التواصل أو وضع عوائق تمنع التواصل بين المخيمات ومحيطها.

تسييج المخيمات من نهر البارد إلى الجنوب والتحكم بمداخلها ومخارجها، وتحويلها إلى سجون بل «غيتوات»، والممارسات الخاطئة التي تمارسها بعض العناصر على الحواجز.

هي التي تشكّل الأرضية للمواقف العدائية (لا أقول الإرهاب) وردود الفعل والانفعالات التي ليس فيها مصلحة لأحد. حصار المخيمات ـ وبكل المقاييس - يحمي الفارين والمجرمين ويغذي وجودهم. حتى مخيم نهرالبارد الذي نحن بصدده كان من أكثر المخيمات استقراراً، ولم تتعكّر أجواؤه إلا في السنوات الأخيرة حين وضعت الحواجز على محيط المخيم وفي ظلّْها ترعرعت وامحت ظاهرة فتح الإسلام.

كل الدراسات والابحاث التي أعدّها مختصون، ومنهم لبنانيون، تؤكد أن استمرار التعامل مع الفلسطينيين ومخيماتهم كحالة أمنية وحرمانهم من حقوقهم الإنسانية، بما فيها حق العمل والتملك يسبب، باطراد، زيادة البطالة ويرفع نسبة الفقر، ويُؤثر على القيم السلوكية والأخلاقية. ويُولّد أمراضاً نفسية وصحية مستعصية. ويُشجع الميل نحو العنف والعدوانية. هذه السياسة التي تتبعها الدولة لا تخدم الأمن والاستقرار، ولا تشجّع على احترام السيادة والقانون الذي يؤكد عليه الفلسطينيون ليل نهار وصبح مساء ولا من يريد أن يسمع، حتى أصبح ممجوجا. كما أنه لم يعد ضرورياً ولا لزاماً ولا حاجة ولا معنى لأن يكرر الفلسطينيون تمسكهم بحق العودة ورفضهم التوطين، لأنهم أثبتوا ذلك عملاً لا قولاً، وقدموا التضحيات والشهداء، في سبيل ذلك منذ أوائل الخمسينيات حتى اليوم وغداً. ليس من حق أحد أن يتهم أو يشكك بالموقف الفلسطيني إلا إذا كان يجهل تاريخه، أو للاستثمار والابتزاز، أو للتواطؤ. طفح الكيل. كثرة الضغط تولّد الانفجار. الكلمات التي ألقيت في العزاء وتناول فيها شيخ جامع مخيم نهر البارد والقيادي في الجبهة الشعبية سمير لوباني الأوضاع تعكس هذه الحالة من الغليان التي يعيشها الناس. وهو ما عبّر عنه ممثل حماس في لبنان من داخل المخيم، أيضا، بمناسبة استشهاد مؤسس الحركة الشيخ أحمد ياسين، وتطرّق إليها عدد من المتحدثين في ندوة نظّمتها لجنة اللاجئين للحركة قبل أيام. وما سمعته في لقاء مع ممثلي القيادة العامة وجبهة التحرير الفلسطينية. وهذا ما يجري تداوله في أوساط الشباب. لم يعد مقبولا ما يتعرّض له الفلسطينيون من إذلال في المخيمات. التصريحات والبيانات والمقالات الصحافية، والندوات وورش العمل لم تعد كافية لطرق الأبواب. «لا تفهمونا خطأ نحن (الفلسطينيين) لسنا جبناء». «فجّرنا لغماً في صدورنا في مخيم نهر البارد لنمنع تفجيره في لبنان». في هذا المناخ السائد في الوطن العربي حيث الثورات الشعبية، من حق الشعب الفلسطيني أن يثور في أي مكان يتعرّض فيه لظلم وقهر واضطهاد وحصار وحرمان من الحقوق.