لا ربيع للحراك الفلسطيني
حسن
شامي
يحوم منذ أسبوع تقريباً، وعلى نحو غامض هذه المرة، شبح
انتفاضة فلسطينية جديدة وثالثة. وتقول الرواية الإخبارية أنه على خلفية صراع مستجد
حول وضعية المسجد الأقصى والتحكّم به زمانياً ومكانياً، ارتفع منسوب المواجهات بين
الفلسطينيين المقيمين في القدس الشرقية وفي الضفة الغربية، وبين القوات
الإسرائيلية. وترافق التوتّر مع حصول عمليات طعن وإطلاق نار على مستوطنين وشرطيين
إسرائيليين، وردت حكومة نتانياهو بتدمير بيوت منفذي العمليات وباستعمال العصا
النارية الغليظة ضد الفلسطينيين، ما أدى حتى الآن إلى سقوط بضعة قتلى وأكثر من مئة
جريح. وكانت قد سبقت هذه المواجهات اعتداءات قام بها مستوطنون إسرائيليون من
المتعطّشين إلى تطهير الأرض عرقياً بعد قضمها، واستهدفوا عائلات فلسطينية حرقاً
وقتلاً ودهساً. وتحولت مقتلة عائلة الدوابشة وطفلها الرضيع علي إلى بؤرة رمزية
تذكر بمقتل الفتى محمد الدرة بين ذراعي والده قبل سنوات.
لا يعدم الوضع الفلسطيني الحالي، السائر على حدة وسط
معمعان "الربيع العربي"، وجود ما يكفي من العوامل المفضية إلى انتفاضة.
فانسداد عملية المفاوضات بين "إسرائيل" والسلطة الفلسطينية لا يعود إلى
مشكلات إجرائية أو تقنية. فهو بالأحرى حاجة إسرائيلية معلنة وفاضحة الى استكمال
عمليات الزحف الاستيطاني وتهويد القدس وتحويل الكتلة البشرية الفلسطينية إلى عبء
سكاني يتحمّل الجميع كلفته. وهذا، في ما يبدو، هو الدور الوحيد الذي تطرحه حكومة "إسرائيل"
على السلطة الوطنية، أي أن تكون جهاز عمل بلدياً وإدارياً لا صفة سياسية وحقوقية
وطنية له. ومع أن شروط حصول الانتفاضة متوافرة، فإننا نرجح أن لا يجد شبحها الحائم
أرضاً لاحتضان وتجسيد حمولته المثقلة بالقهر والتهميش. وقد أفصحت السلطة
الفلسطينية على لسان رئيسها محمود عباس، عن رفضها تصعيد المواجهة "الأمنية"
مع "إسرائيل". وصار في مقدور نتانياهو أن يتخفف من نبرته النارية
وتهديداته باستعمال أقصى درجات القوة لكسر "الإرهاب الفلسطيني الإسلامي"
وفق توصيف يستوحيه، مثل أسلافه، من مناخ المخاوف الدولية من الإرهاب الإسلامي، ومن
سهولة تذويب الاحتجاج الفلسطيني، أياً كان شكله، في مصهر المخاوف من محارق كبرى.
هذا المناخ هو ما بات يحتاج إلى عرض حال، كي لا نقول إلى
تشريح. سنسارع إلى تشخيص هذا المناخ بالقول إنه مزيج من اللامبالاة ومن الاتعاظ
المزعوم ومن استبطان العجز. للعرب وأشباه سياساتهم الأبوية والريعية نصيب كبير في
توليد هذا المناخ الباعث على نفخ الصدور بعد دفن الرؤوس في الرمال. إنه مناخ ملائم
للعدمية السياسية. ولتجرّع جرعات لا يبخل بضخّها الوعي الزائف والشقي المتغلغل في
ثنايا التصورات والتعليلات والتغطيات التي أطلق عنانها الربيع العربي. فعندما أخذ الحراك
الاحتجاجي ضد الأنظمة التسلطية ينتقل من تونس إلى مصر ومن ثم إلى ليبيا واليمن
والبحرين وسورية، سارع فريق متزايد من الكتّاب والإعلاميين العرب الناشطين في حقل
التحليلات والتمثيلات العامة والعريضة، إلى التقاط درة الدهر اليتيمة. فقد لاحظ
هؤلاء غياب أو ضمور المسألة الفلسطينية عن وفي الشعارات الاحتجاجية المرفوعة. وبدا
أن العدد القليل من المتحدثين عنها ليس سوى بقايا وترسبات حقبة سابقة احتلت فيها
القضية الفلسطينية مكانة كبرى. الإصرار على التوقف عند هذه النقطة يسمح بالاعتقاد
أنها، في عرف أصحابها، أكثر من ملاحظة: إنها أمنية. ولأنها كذلك فقد رأى فيها
البعض مؤشراً جدياً الى ولادة وعي وطني، راشد ومتعظ، يقطع مع رطانة حقبة سابقة زعم
خلالها القوميون العرب والأنظمة الموصوفة بالتقدمية رفع القضية الفلسطينية إلى
مرتبة القضية المركزية. استناداً إلى ما حسبه المسترشدون الجدد قطيعة مع البلاغة
القومية العروبية بكل تنويعاتها الناصرية والبعثية واليسارية العالم ثالثية، ازداد
منسوب التعويل على الحراك بوصفه حاضنة عهد وطني حقيقي ونقطة انطلاق يمكن التأسيس
عليها. هكذا امتلأت السماء بسنونوات واعدة بإعادة بناء الكيانات الوطنية على أسس متحررة
من ديماغوجيات الأنظمة التقدمية التي يختلط فيها النزوع إلى تسلّط النخب العسكرية
والاقتصادية، وتغوّلها في بعض الحالات، مع التمسك بمنطق السيادة الوطنية لمرحلة ما
بعد الاستقلال وما يعرف بنزع الاستعمار.
في هذا السياق، وفي ما يخص مصر مثلاً، جرى تسويق مقولة افتراضية
مجنحة، مفادها أن الحراك الشعبي يعلن عن قطيعة تاريخية ليس فحسب مع نظام حسني
مبارك وسياسات الانفتاح الاقتصادي واللبرلة المتوحشة كما دشّنها أنور السادات، بل
مع الناصرية جملة وتفصيلاً بعجرها وبجرها. ثم بدأ يظهر شيئاً فشيئاً أن السنونوات
الواعدة بربيع أوطان صلبة كانت تحجب غرباناً قفزت فجأة إلى الواجهة، بحيث تحوّلت
عودة العسكر انتخابياً إلى السلطة حاجة وطنية ملحة. ومع أن مشهد الحراك حفل منذ
البداية لاعتبارات مختلفة، تاريخية وثقافية وسوسيولوجية تتعلق بكل كيان وطني على
حدة، بالتباسات ومفارقات بليغة، فإن عدداً لا يستهان به من الدعاة عاد إلى
المعزوفة القديمة التي نقضها: كل البنادق نحو العدو ولا صوت يعلو على صوت المعركة.
ولعبت السياسات الغربية وضرورة التكيف معها دور البوصلة الخلاصية. وسط هذا المشهد
الهادر والعنيف، بقي ذواء القضية الفلسطينية وخروجها من الأجندات الإقليمية
المزعومة معلماً على نهوض وطني يرتسم بالنكاية من أنظمة تسلّطية ونخب عسكرية
وقومجية حاكمة ينسب لها ادعاء الانشغال المركزي بالقضية الفلسطينية الكبرى.
ثمة ما يغري بالرد السجالي على حملة الفوانيس المضاءة في
وضح النهار. كالقول مثلاً، إن سحب المسألة الفلسطينية من التداول هو، على العكس،
مؤشر بارز الى وهن البناء الوطني الموعود لأنه تعبير عن استقالة من مواجهة
استحقاقات وطنية وإقليمية يتعين بمقتضاها وجه السياسة الوطنية وصفتها. وهذه طريقة
للقول إن مشكلات البناء الوطني السليم تقع في مكان آخر. ولا يفوتنا أن أهمية
المسألة الفلسطينية منذ النكبة لا تتعلق بأعداد الضحايا والنازحين والمقتلعين،
وبحجم المجازر التي تعرضوا لها. فعلى هذا الصعيد، تبدو المأساة السورية مثلاً،
دماراً وموتاً ونزوحاً وتشتتاً، أقسى بكثير من نكبة الفلسطينيين. وينطبق هذا على
العراق وليبيا واليمن. تعود الأهمية إلى المدار الدلالي للمسألة الفلسطينية. فهي
كانت ولا تزال محلّ اختبار لقدرة كيانات المنطقة على بناء شرعيات سياسية وطنية
مستقلة وتنموية وحديثة. ولم تكن أصلاً قضية مركزية.
الحياة، لندن