لا
يزال البداوي بخير
بقلم:
روبير عبد الله
بسبب
البطالة والفقر، لا يبدو أن باستطاعة سكان البداوي استقبال شهر رمضان كعادتهم، ومع
ذلك يصبون جهودهم لدرء أي خطر عن المخيم، سواء عبر الاستنفار الأمني على حدوده
كلها، أو بتوحيد خطابهم الإعلامي إزاء ما يجري في لبنان.
في
البداوي زحمة وصخب كثير. المقاهي المنتشرة على طرقاته الرئيسة مليئة بالرواد،
معظمهم يدخن النرجيلة. بائعو القهوة في حركة دائمة، وكذلك بائعو التوت والليموناضة
المثلجة، وبخاصة في زواريب المخيم الضيقة حيث لا نسمة هواء تخفف من وطأة نهارات
تموز الحارة، هنا لا يصح القول «كل حركة فيها بركة». فالشباب «المسترخي» في
المقاهي، ليس في صدد استراحة مثلا بعد عمل، بل يئن من الضجر والبطالة، ملل لا
تقطعه إلا مشاجرة من هنا، أو رشق ناري من هناك،من حي المنكوبين المقابل أو من محلة
الريفا.
أزقة
المخيم تغص بالمارة، يتفركش بعضهم بمجموعات من الأطفال ازدادت أعدادهم بشكل غير
مسبوق منذ النزوح السوري والطرابلسي. فالمخيم الذي كان يعد قرابة العشرين ألف نسمة
باتت أعداد قاطنيه تتجاوز الأربعين ألفاً، والحبل على جرار ما تحمله الأحداث
السورية من مفاجآت.
لا
يشعر أهالي البداوي بأن شهر رمضان على الأبواب «لحد إسا ما في إحساس عند الناس زي
السنين السابقة»، هذا ما يقوله البقال أبو ناصر الذي اعتاد أن يجدد محتويات دكانه
قبل أسبوعين من حلول «الشهر الفضيل». ويضيف الرجل «أهل المخيم بالذات أكتر شي
مظلومين» ويقصد أكثر من أي فئة تسكن البداوي اليوم، بدءاً بما تبقى من مهجري
البارد، مروراً بالفلسطينيين النازحين من سوريا، وانتهاء بالنازحين السوريين، كما
أن بعض السوريين كانوا موجودين في المخيم منذ سنوات، لكن ما يلحقهم من مساعدات
دفعهم لتسجيل أسمائهم تحت خانة نازحين. يقول أبو ناصر ما قاله بلهجة ظاهرها يشبه
عنصرية بعض اللبنانيين، لكنها بالواقع تستبطن توجساً مما اسماه الرجل «فوضى
الإغاثة المنظمة». يعرف الرجل سوريين مقيمين في المخيم منذ زمن طويل، لم يكترثوا
في بداية الأزمة السورية لتقديمات جمعيات الإغاثة، لكنهم مع الوقت «استلحقوا
أنفسهم» بل غالوا بالأمر لدرجة أنهم راحوا يبيعون الفائض مما يحصلون عليه، كما
راحوا يستدعون أقاربهم من سوريا على أساس أن منظمات الإغاثة توفر للنازح إيجار
المنزل، وقدراً من المال يرتبط بعدد أفراد الأسرة، والمساعدات العينية تأتي من
أكثر من جهة، حتى أنه لاحظ أن أكثر من نازح يجول مع أولاده على المنازل ليبيع ما
يفيض عن حاجته.
والمقصود
بالفوضى المنظمة أن الجهات المغيثة، كما سائر المعنيين، لا يخفى عليها أن قسماً من
النازحين قدم إلى لبنان بدون مبرر، لكن يبدو أن ثمة أمراً يكمن خلف ما يشبه تشجيع
عمليات النزوح، وتضخيم أعداد النازحين تمهيداً لانخراطهم في لعبة الاصطفاف المذهبي
اللبناني. ألم يتبين أن نسبة عالية من السوريين كانت تقاتل إلى جانب الشيخ أحمد
الأسير؟ وما الذي يمنع تكرار السيناريو نفسه، وعلى نطاق أوسع في الشمال اللبناني؟
هكذا
بالمختصر، ابن البارد المقيم في البداوي له إعاشة، والنازح الفلسطيني من سوريا له
إعاشة، والنازح السوري له إعاشات، اما الطامة فمن نصيب سكان البداوي الأصليين.
فلقد مضت سبعة أشهر على فادي اسماعيل «لا شغلة ولا عملة، وانجبرت افتح محل، يعني
بدك تعمل إيش ما كان حتى تعيش»، يقول فادي أي شيء كان، لعلمه أن الأغراض القليلة
التي وضعها في غرفة ملحقة بمنزله لا تستحق تسمية محل تجاري، وبعد سؤاله بدقة عن
قصده بعبارة «إيش ما كان» يكرر «إيش ما كان، أو تتدين، أو تتصل بقريب مسافر، يعني
الفضيحة ع أبواب رمضان مش هينة».
ومثل
كل أهالي البداوي يشكو أبو جميل زيد انعدام فرص عمل الفلسطينيين مع تفاقم النزوح
السوري إلى لبنان، ومزاحمة اليد العاملة السورية لجميع العاملين في لبنان، إذ
يرتضي العامل السوري بأجور زهيدة، بالنظر إلى ما يتلقاه من مساعدات، وبسبب تدهور
قيمة العملة السورية. ويعتبر أبو جميل أن مزاحمة اليد العاملة السورية تنعكس بشكل
خاص على العامل الفلسطيني المحروم أصلاً من ممارسة معظم المهن، فلا يبقى له سوى المهن
المتواضعة جداً، ولدى سؤاله عن عمله السابق يبتسم متحسراً «يعني الفلسطيني شو رح
يشتغل: بالدهان أو بالعمار»، ويضيف مستذكراً كيف كان يُكتب في خمسينيات القرن
الماضي على رخصة سوق السيارة الخاصة الممنوحة للفلسطيني «عدم الارتزاق»، ما يعني
منع الفلسطيني من العمل سائقاً لدى شخص أو مؤسسة.
رغم
الضائقة التي يعانيها أهالي المخيم، وهي تنذر بأن الأسر المستورة ستواجه عسراً
شديداً مع بداية شهر رمضان، يتناسى أهل المخيم فقرهم وضيقهم، ليواجهوا خطر توريط
مخيمهم الذي يعد ثاني أكبر مخيمات لبنان. ويخشى أهله بعد انحسار قضية أحمد الأسير،
ونجاة مخيم عين الحلوة بقدرة قادر من تداعيات أحداث صيدا، توريط مخيمهم بما لا
طاقة لهم على احتماله. فعلى مدخله الشرقي لا تلبث اشتباكات بين القوى الأمنية
ولبنانيين من جبل البداوي على خلفية مخالفات أبنية أن تهدأ، حتى تثور اشتباكات
أخرى بين عائلات المنطقة، وعلى المدخل الغربي غالباً ما تطل النار المشتعلة على
المحاور التقليدية بألسنتها على أطراف المخيم، وكان آخرها مقتل الفلسطيني خالد
مقداد الطرابلسي برصاصة قناص قرب مدخل المخيم وهو عائد إلى منزله. هكذا، يرى أهالي
المخيم أنفسهم محاصرين بنار صراعات لا شأن لهم بها، وبحالات فقر آخذة بالتفاقم،
تخالهم يستعيرون حالات نموذجية لخصها زياد الرحباني بشخصية هاني، إحدى شخصيات
مسرحية «فيلم اميركي طويل» التي تواظب على القول «بأمرك يا خيي.. هيدي تذكرتي..»!
فخلال جولة لاستطلاع آراء الناس حول زيارة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس إلى
لبنان، أحجم كثيرون عن الافصاح عن آرائهم، ومن تحدث منهم تحفظ على ذكر اسمه. منهم
من قال «طالما لا يزور (الرئيس) المخيمات، فالزيارة مثل قلّتها».
وتعليقاً
على موقف أبو مازن من السلاح الفلسطيني قال أحد أبناء المخيم «البارودة تحت أمر
الدولة اللبنانية، طيب والحقوق المدنية؟» ثم أضاف «يعني معقول طلاب سنة ثالثة
ورابعة بالجامعة بيشتغلو عتالة عند الأمم المتحدة لتوزيع إغاثة للسوريين؟». ولم
تخلُ التعليقات الفايسبوكية من طرائف تتعلق بزيارة الرئيس «أصلي مش قادر أعبر،
سيادة الرئيس بحاله جاي؟ يا فرحتي ويا هناي! عم فكر آخد إجازة واستقبله بالمطار
وأحمل علم واصبغ وجهي كمشجعي الكورة بعلم فلسطين واصرخ بالروح بالدم نفديك يا
رئيس، واحمل ورد وارميه عليه واركض اتصور حده وأنا عابطه!. فجأة دق المنبه الصبح
علشان اصحى ﻻنه عندي شغل. كان حلم مؤثر. لما غسلت وجهي تذكرت أنه ما عنا رئيس وما
عندي شغل».
في
سياق العمل على تجنيب مخيم البداوي تداعيات ما يجري حوله، عقد قادة الفصائل
وممثلون عن المنتديات وصفحات التواصل الاجتماعي لقاء ناقشوا فيه «دور الإعلام
والمثقفين والشباب الفلسطينيي في ظل هذه الظروف» وخلصوا إلى توصيات أبرزها تحمّل
كل فرد فلسطيني مسؤولياته وخصوصاً على الشبكة العنكبوتية، اتباع أسلوب الحوار
الحضاري بعيداً عن التجريح، عدم نشر المواضيع التي تسيء لأي طرف لبناني، وبالتالي
عدم التدخل بالشأن الداخلي اللبناني، والحذر من الأقلام المشبوهة والمجهولة التي
تسعى إلى «جرّنا وإبعادنا عن محور قضيتنا».
المصدر:
الأخبار