لاجئون في غزة.. الوجه الآخر
بقلم: ياسـر عـلي
«تقلقش».. الكلمة الأكثر شيوعاً في غزة.. وتُلفظ وتكتب في بعض الأماكن «tglgsh». يقولون أن وزارة السياحة وضعت لوحات إعلانية تقول «تقلقش، أنت في غزة» على صيغة «ابتسم، أنت في..». بل إن الأنشودة التي ظلت ترافقنا في إحدى جولاتنا، وسمعتها عشرات المرات هي «غزاوية وما بنقلقش»..
«تقلقش» تعطي انطباعاً إيجابياً بالارتياح ورفع التكلفة في التعامل، وانطباعاً سلبياً في الالتزام بالوقت والإنجاز.. لكنها بالعموم تعرّفك إلى شعب، يصرّ على التعامل مع الحياة ومصاعبها بالتخفيف من همّها.. ما انعكس على طريقة تعامله مع الحصار والحرب والحياة اليومية.
في غـزّة
منذ اللحظة الأولى للدخول إلى غزة تشعر بالفارق، بين طرفي المعبر.. بعد السفر ساعات بالباص عبر سيناء والمكوث ساعات في رفح المصرية بانتظار السماح بالدخول، تدخل إلى المعبر الفلسطيني، فيُذهلك فائض الاخضرار واحتشاد الأشجار فيه. والترتيب والنظافة في قاعة المعبر.
منذ اللحظة الأولى لدخولنا، وقبل سجود الشكر، تنفستُ شعور الوطن والمواطنة، مازحتُ زميلي اللبناني الذي يجلس قربي قائلاً: اسمع، منذ الآن، لا تطالب بحقوقك المدنية عندنا، ممنوع عليك العمل والتملك هنا، ويمكنني أن أخدمك بتسجيل مسكنك وأشغالك باسمي!!
تسير في طريق صلاح الدين، الذي يمتد على طول قطاع غزة (أكثر من 40 كلم)، فتلاحظ فقر البنية التحتية فيه، فقطاع غزة خالٍ من مواد التزفيت طوال السنوات التي شهدت الحروب والقصف والحصار، وسوف يقوم المشروع القطري بإعادة تأهيله.. وستلاحظ بعد ذلك أن الكثير من الطرقات مرصوفة رصفاً في أماكن الحفر، وهي كثيرة، بدلاً من التزفيت.
تترك الوفد الرسمي.. تتجول في الشوارع، تسترجع ذاكرتُك الأسماء والأحداث، هنا استشهد فلان، هنا عملية فلان، هنا مسجد العباس حيث بدأ الشيخُ دعوتَه، هنا استشهد محمد الدرة، هنا وقف فارس عودة بوجه الدبابة.. تستعيد الأسماء كلها في ذاكرتك، تُسقطها على الورق، تعيش الحالة، حتى تشعر أنك تقيم في غزة منذ الانتفاضة الأولى..
بعيداً عن الوفد الرسمي، «هربنا» إلى أكثر من مكان، قرب المجلس التشريعي مطعم عريق وشهير في غزة، تناولنا الغداء فيه، فوجدنا مجموعة من الفتيات يضعن أمام كل واحدة منهن «لابتوب».. يكتبْنَ ويحررْن ويحمّلن الصور ويتحدثن بانتظار الطعام.. زميلنا عرّفَنا إليهم «هذه مجموعة مشروع الصحفي الصغير، وهذا مدربهم الأستاذ غسان..»، حدثَنا المدرب عن التجربة الرائدة، وإنجازات هذه المجموعة المشكّلة من بعض المصابين من ضحايا الجرائم الصهيونية ضد غزة. هذه جميلة الهبش (17 سنة)، التي قالت أثناء نقلها للعلاج في السعودية في حرب الفرقان، وكان عمرها 14 سنة: «أريد أن أصبح صحافية، لأفضح إسرائيل»، ها هي اليوم تجلس على كرسيها المدولب، تكتب عن الناس والأطفال في الحرب الأخيرة على غزة. وهذه هدى غالية، التي قُتل أهلها أمامها على الشاطئ، وصرخت أمام الكارثة، بحسٍّ إعلامي لمسه المراقبون مخاطبةً المصور: «صوّر صوّر..خلّي العالم يشوف». وتلك فتاة من عائلة السمّوني التي استشهد 27 شخصاً من عائلتها في حرب الفرقان..
أطفال حرب الفرقان أصبحنَ اليوم مساهِمات في علاج أطفال حرب حجارة السجيل، حيث خاضوا تجربة العلاج النفسي عبر الإذاعة في حديث مباشر مع الأطفال أثناء الحرب..
منذ أكثر من عشر سنين، كانت «شبكة فلسطين للحوار» تجمعنا، وعرفت من خلالها أكثر من مائة شخص من أبناء غزة. ذاك الذي تزوج وهرّب عروسه عبر النفق، وآخر كان جريحاً وتزوج في رحلة العلاج، وثالث هو شاعر شاب أو منشد، ورابع هو أستاذ جامعي، جرح في الانتفاضة الأولى وسجن أكثر من مرة، وبعضهم صحفي أو مصور يتحدى الإعاقة. تعارفنا حتى ذابت حواجز المسافة بيننا.. ولكن أسبوعاً واحداً لن يتسع لكل هؤلاء الأصدقاء، التقيت القليل منهم، واعتذرت من الكثيرين.. وبالتأكيد لا بد من زيارة ثانية طويلة نسبياً..
خيرات ومأكولات
كرم أهل غزة فائض، كثير من شركاء الرحلة اضطروا أحياناً للغداء مرتين أو العشاء مرتين، بسبب إصرار المضيفين، وهو إصرار يستحق الاستجابة له.
في بعض البيوت تجد الفراولة قبيل موسمها، وبجودة عالية، حيث تُصدَّر مع الورود إلى أوروبا. والمانجا المهجن المطوّر، الذي تركه اليهود في المحررات خلفهم. وثمرة الكيوي المتوافرة بكثرة. يقدّمون ضيافة فريدة من الحلويات، غزة تتميز بالكنافة؛ بنوعيها: العربية (بالجوز) والنابلسية (بالجبنة).. ضيافة يتخصص فيها بعض محال الحلويات، تستغرق وقتاً في انتظار الحصول على حصتك وسط زحمة الزبائن.
ولا تخلو سهرات الغزاويين من البزر الأبيض الغزاوي الشهير. تسأل عن أماكن بيعه، فيأتيك مضيفك في اليوم التالي بكمية غير قليلة منه.
يدعوك صديق إلى الغداء في مطعم، على طبق شهي من السمك، تسأل النادل عن السمك، يقول: «هذا السمك طازج وجديد..».. مهلاً، فكل سمك غزة طازج وجديد، «نعم، ولكن هذا محرر»، تقصد: محرحر.. «لا، محرر يأتي به الصيادون من مسافة 13 كلم في البحر، بعد أن كان كل السمك من مسافة 4 كلم كحد أقصى، تحرر في معركة حجارة السجيل حوالي 10 كلم».
إذاً، أكلنا من الخيرات البحرية لانتصار معركة حجارة السجيل!.. أما الخيرات البرية، فقد رأينا المستورد حديثاً، فالأرض فلم تثمر بعد، حيث يقوم المزارعون بفلاحة أرضهم قرب السياج الحدودي، بعدما كان ممنوعاً عليهم الاقتراب لأكثر من 1500متر على طول قطاع غزة منذ التحرير في عام 2005..
لكن خيرات التحرير البرية موجودة في المحررات منذ عام 2005، وهي كثيرة ومكتنزة، والأراضي الزراعية في غزة، بخلاف ما يتخيله البعض، واسعة، وما زال هناك الكثير من الأراضي القابلة للاستصلاح.
على الأقدام ليلاً نهاراً
مرة أخرى.. يحثّك فؤادُك ورجلاك على التجول في الشوارع، «تهرب» مرة أخرى من الوفد الرسمي، المسافة بعيدة عن الفندق، برفقة زميلي كنا نفضل المشي، هي فرصة لتلتحم قدماك مع هذه الأرض أطول فترة ممكنة. كيفما توجهت في وسط المدينة تجد عند الزوايا رجال الشرطة يوقدون ناراً عند زاوية أو مدخل مؤسسة، فإذا وصلت إلى أطراف المدينة قليلاً، تجد المرابطين ملثمين يحملون سلاحهم ويتحركون بصمت..
تمشي من الميناء صعوداً إلى مستشفى الشفاء، إلى شارع عمر المختار والرمال والشيخ رضوان.. شارع الوحدة، شارع النصر.. تشتري في اليوم الأخير التذكارات والهدايا.. الزيت والزعتر والدقّة والبزر الغزاوي.. وشتلة زيتون، وحفنة تراب وبعض أصداف الشاطئ، لتحملها معك من رائحة البلاد.
في النهار، تجولنا ببعض الأسواق الشعبية، في محيط المسجد العمري، دخلتُ الأحياء الداخلية إلى مسجد ومقام هاشم؛ جد النبي صلى الله عليه وسلم.. الأسواق مليئة بالبضائع المتنوعة، لا تشعر في غزة بحصار اقتصادي في الحياة اليومية، بل إن الحصار الحقيقي هو حصار سياسي وحصار يهدف إلى عزل أهل غزة، لينعكس نفسياً على بعض أهلها.
أسواق جديدة في غزة افتتحت، أسواق راقية، مول وسوبرماركت وماركات مميزة، كان أبرزها في فترة الرحلة عطور M75 وسلوغن «لمن يعشق النصر»، اشترى بعض المشاركين في الوفد بعض العبوات منها، لكنهم اقترحوا على البائع أن يحضر كمية إلى الفندق، فاشترى أعضاء الوفد نحو مائتي عبوة منها..
العودة إلى فلسطين
في حوارات مع الأصدقاء، اتفقنا على حقيقة أن مستوى المعيشة في مخيمات غزة أفضل من مستواها في مخيمات لبنان.. ولدى الحديث عن هذا الأمر، أقرّ الجميع أن غزة تتعرض لحصار عام، لكن المعيشة أفضل. بخلاف الوضع في لبنان. فاقترح بعضهم أن نستقرّ في غزة ونشتري أرضاً أو بيتاً. فقلنا لهم جئنا إلى غزة لأنها جزء من فلسطين، لكنها ليست كل فلسطين..
حرب حجارة السجيل، بثّت في النفوس روح النصر الموعود، وأشعرت الغزاويين أن العودة قريبة، أحد الأصدقاء من خان يونس قدم للمسؤولين مشروعاً يمكن أن نسميه «حارس أملاك العائدين» رداً على السرقة الصهيونية الموصوفة في المؤسسة الأكثر ثراء في الكيان «حارس أملاك الغائبين»، ويقوم المشروع على توثيق الأراضي لأصحابها من الآن، من خلال «الكواشين» والأوراق الرسمية، لأن العودة القريبة تقتضي أن تعود الحقوق لأهلها.. مشروع جدير بالاهتمام والمتابعة من خلال مؤسسات علمية وتوثيقية.
في ختام زيارتنا، طالبونا بأن نعود مرّة أخرى إلى القطاع، وعدناهم بذلك لكن من الجهة الشمالية؛ من أراضينا المحتلة عام 1948، قالوا نلقاكم إذاً في الحرب القادمة على منتصف الطريق..
ودّعناهم ونحن نبصر شعاع الأمل في عيونهم، والنصر في عزماتهم، والثقة بالمقاومة منبثّة في كل شرائح المجتمع الغزاوي..
غادرناهم ونحن، فعلاً، «ما بنقلقش» على القطاع، فهو في أيدٍ أمينة، أيدي المقاومة التي اشتد عودُها..
المصدر: مجلة فلسطين المسلمة