لست لاجئاً فلسطينياً في لبنان
بقلم: د أسعد ابو خليل*
قصتي أرويها لكم. عشتها بالثواني المخضّبة. كتبتها على ظهري المضرّج، ورسمتها على شاهدة قبري الدامعة. حكاية تختصر تاريخ قضيّة فلسطين. لا بطولات من الأنظمة العربيّة فيها، ولا خطط لتحرير فلسطين. سلاسل من الخيبات والهزائم والأكاذيب، ويمكن أن تضيف إليها كميّة هائلة من الشعر الرديء عن فلسطين، ومن الخطب الغبيّة التي كانت خير عون للدعاية الصهيونيّة. اقتلعت من أرضي بالقوّة، وداسوا على جبهتي بعدما ربطت عنقي بباب بيتي في الجليل. صبغوا كل ثيابي الخضراء والحمراء بالرمادي، وزعموا أنني لم أولد بعد. قالوا إني أهذي عن وطني، وإن السماء فوق رأسي متخيّلة. لا خضار ولا ثمار ولا فاكهة في أرضي، طفقوا يردّدون. زعموا أن زيتوني تبخّر، وأن ترابي ذاب، وأن أشجاري مفخّخة. نصحوني بقراءة الأدب العبري لفهم معاناتهم. نصحتهم بالرحيل عن أرضي لفهم معاناتي. سرقوا صورة جدّي وجدّتي، وعلّقوها في متحف خاص بالتاريخ «الإسرائيلي». اتهموني باللاساميّة، فاتهمتهم فقط بالصهيونيّة.
جئت أحمل بيتي على كتفي. حملت أولادي في جيبي. أهلي ماتوا في يدي. تركت فلسطين على عجل. مفتاحي شغل أصابعي، وصك ملكيّة بيتي ممهور بدمي. أناشيدي تطن في أذني، وتاريخي مُحاك على فساتين زوجتي. أحبابي ماتوا من دون إعلان وفيات، ورفاقي اقتاتوا من الغبار لعقود. رأيت الجيوش العربيّة تدخل إلى فلسطين ثم تتمنّع، ورأيتها تتقاتل في ما بينها. رأيتهم يطلقون النار بعضهم على بعض. رأيت جنوداً يتهامسون مع جنود صهاينة، ورأيت بعضهم يتلقّى نقوداً أوروبيّة. أنا لم أقتل الملك عبد الله. لا، شُبّه لي ولكم أنني قتلته. لم يحصل لي الشرف. واكبت معركة تحرير فلسطين وحملت بندقيّة صيد من قرن غابر. ورأيت أسلحة تبدو من مخلّفات حروب فتح الشام. عصرتُ بساتيني وأتيت. كبّلت قلبي وأتيتُ. طعنت كبريائي وأتيتُ. لم أر أحداً في استقبالي. على العكس، استقبلنا شعب لبنان بالإذلال.
وضعونا في خيم من المهانة، وسرعان ما سمعنا النظرة اللبنانيّة إلى الشعب الفلسطيني. لم يمرّ أسبوع على قدومنا حتى سمعنا التندّر والهزل والشماتة عن شعب «باع وطنه وأرضه» كما كانوا يقولون عنّا، وكما قالت عنّا في السنوات الماضية الإعلاميّة «المُحايدة» مي شدياق وجبران باسيل. لو كان الأمر في يدي، لفرضت دروساً إجباريّة على كل شعب لبنان ليتعلّموا عن تاريخ القضيّة الفلسطينيّة. ماذا يعلم هؤلاء؟ هؤلاء ماذا يعلمون عن الخطر الصهيوني الداهم؟ تهدّدهم إسرائيل كلّ يوم، فيهدّدون المقاومة بنزع سلاحها. يهدّد سعد الحريري بالردّ بقوى الأمن الداخلي والجيش إذا اعتدت إسرائيل. أين كانوا في عدوان تمّوز؟ من منعهم من الردّ؟ كنا نتعرّض للضرب والتحقيق في أقبية الشرطة عندما نتحدّث بأدب عن بيع لبنانيّين (من عائلات تيّان وسلام وتويني وسرسق) أراضيَ فلسطينيّة. كنا ما إن نفتح أفواهنا لنروي لهم أخباراً عن أملاكنا ومزروعاتنا وكيف أن الفلاح الفلسطيني لم يترك أرضاً خصبة إلا زرعها (كما روى «أهاد عآم» في زيارته لفلسطين أواخر القرن التاسع عشر)، حتى يسخروا من وطننا ومن جروحنا وعذاباتنا. الصهانية اخترعوا في ما بعد حكاية جعل الصحراء تزهر. أزهرت صحراؤنا قبل أن يولد ثيودور هرتزل. خضّبنا أرض فلسطين بدمنا وعرقنا ودموعنا. أتوا من بعدنا وسرقوا دمنا وعرقنا ودموعنا، وزادوا عليها المزيد من الصبّ من عرقنا ودموعنا ودمنا.
نمت في خيمة، لكنني لم أنم. كنت أغمض عينيّ وأفتح ثقوباً في سقف الخيمة. أسافر في الليل نحو فلسطين. أتلمّس قراها ومدنها وشوارعها. وعندما يصيح الديك، أفيق مذعوراً. أتذكّر أنني في بلد قبيح: يهينني ويحقّرني ثم يسألني أن أتذكّر جميله. يضربونني ويطلبون مني مديح لبنان، كما يفعلون اليوم بالعمّال السوريّين في كل مناطق لبنان دون استنكار من أحد، في المعسكريْن المتعارضيْن. أحاول أن أقول إن كل الدول العربيّة المُجاورة أعطت شعب فلسطين حقوقاً أكبر مما أعطاه لبنان. أذكر أيّاماً من العرق ومن الصبر الصعب، وأذكر أن الشرطة اللبنانيّة تمرّست في مهانتنا. كنت أحاول أن أدور في الشوارع لأملأ رئتي بالهواء لكن الشرطة كانت تقيّد حركتنا. كانت كلمة لاجئ تتردّد في أذني. لم ألجأ بقراري. كنا نحاول أن نروي مشاهد عن عمليّات منظّمة لطرد شعبي من أرضه، نسمع أننا بعنا أرضنا وأننا اختلقنا روايات عن بيّارات في فلسطين. كنّا نهرب نحو الحدود. حتى لهجتي الجميلة كانوا يسخرون منها. كان الواحد منا يعمل على طمس لهجته. إنه لبنان، بلد الادّعاء الفارغ. نحاول أن نقترب من أرض فلسطين. كان الجيش اللبناني يمنعنا من الاقتراب، وكان حرس الحدود الإسرائيلي يطلق الرصاص بمجرّد رؤية رؤوسنا. آلاف مؤلّفة منا ماتوا على الحدود. ماتوا لأنهم حاولوا أن يتفقّدوا وطنهم.
عشت سنوات من الدوار. أحزاب ومنظمات من كل حدب وصوب تعدنا بالنصر والتحرير والوحدة. توزّعنا على عدد منها. اختلفوا في ما بينهم: منهم من قرّر أن الوحدة تتفوَّق على التحرير، وهناك من رأى أن التحرير أهم، وهناك من قرّر أن خدمة أمراء النفط أهم من التحرير والوحدة والعدالة. أما المشير عبد الحكيم عامر، فقد رأى أن هزّ الأرداف يأتي قبل التحرير وقبل الوحدة. وميشال عفلق قرّر أن القوميّة محبّة، وأن عسكر البعث خير مَن حارب. كان المذياع سلاح المنظّمات والأنظمة الأمضى، وأبدعوا فيه وبه. كانوا يستلّونه في المعارك ويوجّهونه نحو إسرائيل ويضربون به دون هوادة. مذياع، ومذياعان، وأكثر. تصبّ حمم زعيقها نحو العدوّ، والعدوّ يضحك. البعث كان يرمي، والناصريّون كانوا يرمون، أما الشيوعيّون فكانوا ما زالوا يحاولون تسويغ قرارهم بتأييد تقسيم فلسطين الجائر. لكن عبد الناصر أنعش قلوبنا. في معارك الخطب، كنّا نفضّل خطبه. ميشال عفلق كان خطيباً خجولاً، وأمام جمع صغير في المقاهي فقط. حروب المذياع كانت شيّقة لكننا لم نقدّر مدى ضررها إلا بعد حرب 1967. ذهبت وعودهم وانتصاريّاتهم كلّها هباءً. لم أستمع إلى خطبة واحدة لعبد الناصر بعد هزيمة 1967 الشنيعة.
وفي لبنان، تحوّلنا بسرعة إلى كرة قدم في لعبة طائفيّة بغيضة يجيدها اللبنانيّون. اكتشف كميل شمعون أن الوجود الفلسطيني يمكن أن يفيد الحروب الطائفيّة في لبنان. أعداد من المسيحيّين الفلسطينيّين حصلوا بسرعة على الجنسيّة. حتى حزب الكتائب الذي جاهر بمعاداة عنصريّة ضد الفلسطيني استحسن الخطة. صار طفل المخيّم ألعوبة بيد كهنة الطوائف أو كهّانها. هذا يريد قطعة لمعاركه الطائفيّة وآخر يريد قطعة. تناتشونا ونهشونا وحوّلونا إلى أدوات في مهرجانات القتل الدوريّة. أسهمنا في بناء وطنهم الذي يفخرون به: المواهب الفلسطينيّة أسست للبنان، في كل المجالات: التعليم والفن والرقص والغناء والإعلام والاقتصاد والسياسة والثورة. حتى الظاهرة الرحبانيّة ـــــ الفيروزيّة تحمل بصمات فلسطينيّة. لكن لا أحد في لبنان يذكر صبري الشريف. يذكرون سعيد عقل: هذا الذي شكر الجيش الإسرائيلي على اجتياحه لبنان.
كنا نمشي ونستمع إلى خطب تحريض عنصري ضد الشعب الفلسطيني. إذاعة العدوّ العبريّة كانت تسمّينا «مخرّبين» قبل أن يعتمدوا على كلمة «إرهابيّين» في السبعينيات. الإعلام الكتائبي والقوّاتي جاراهم (من غير صدفة). كانت الدعاية الكتائبيّة المُتحالفة مع إسرائيل تتحفّظ في البداية. كانوا يتحدّثون عن «الغرباء» فيما كانوا يقصدوننا فقط. تحريض ضدّنا وتحميلنا كلّ مشاكلهم. فضيحة بنك «إنترا» كانت بداية مشبوهة، ولنتذكّر بيار إدّه، وما أدراك مَن بيار إده (لكن إتامار رابيونفتش في كتابه عن لبنان يذكر أنه كان مبعوث والده للحركة الصهيونيّة). سخّرونا في ما يسمّونه «الأعمال القذرة». خادمات في البيوت، عمّال بناء، ومزارعون من دون حقوق. الحق السياسي كان ممنوعاً، والتمييز العنصري كان مسموحاً وواجباً.
دخل المكتب الثاني إلى المخيّمات. أقام مخافر وعصابات بأزياء رسميّة. عقيدة الجيش الرسميّة آنذاك اقتضت مراضاة إسرائيل ودوس الفلسطيني ظهراً ومساءً. هكذا أرادها فؤاد شهاب. تخصّص جنود القمع وضباطه في إذلال الشعب الفلسطيني في المخيّمات. كنا نسمع عن مؤامرات إسرائيليّة وعن ميليشيات موالية لإسرائيل وكنا نسمع أيضاً عن تواطؤ رسمي لبناني مع جيش العدو. لم يكن دخول عناصر كوماندوس الإرهاب الإسرائيلي إلى لبنان ممكناً لولا وجود تنسيق داخلي حثيث. اغتيالات بالجملة دون الوصول إلى نتائج تحقيق. وكانت عمليّات الاغتيال تعتمد أحياناً على نصب الصواريخ بصورة مفضوحة كما حصل في محاولة اغتيال وديع حدّاد.
مشيت في تظاهرة للمرّة الأولى في الخمسينيات، كانت ضد العدوان الثلاثي. اقتادوني إلى أقرب مخفر، وضربوني على رأسي وفي كلّ أعضائي. سخروا مني وعيّروني بأني لاجئ. صمتّ. ثم بدأوا يهزأون ويسخرون من فلسطين، ويقولون إننا بعنا أراضينا من اليهود الصهاينة. ثرت في وجههم وسخرت من أرزاتهم ودست على أعلامهم وشتمت زعماءهم وقبّحت طوائفهم ورميت ضابطهم بمنفضة سجائر. ضربوني ورموني من طبقة عليا. أثخنوني بالجروح. خرجت مصمّماً على المزيد من التظاهر والغضب والثورة.
ثرت مع شعبي. زرعنا في مخيّماتنا بنادق، وتوالدت نساؤنا جيوشاً ـــــ على ما قال مظفّر النوّاب. نَمَت البنادق بسرعة فائقة. كنا نحشو أكياس الرز والطحين في مخازن «الأونروا» بالقنابل والرصاص. لم يغصّ واحد منا وهو يزردها ويمضغها. ثرنا على دَنَس المكتب الثاني. تغيّر السياق العام. انتشرنا في لبنان، وبدأنا بالتدريب. تنظيمات فلسطينيّة لا تعدّ ولا تُحصى. منها ما كان دكاكين لأنظمة عربيّة خبيثة أرادت التأثير على القضيّة الفلسطينيّة لحسابات النظام وبقائه، وبعضها عبّر عن تطلّعات ثوريّة. كانت حركة فتح هي الأقوى. قوي عودنا وطردنا المكتب الثاني من المخيّمات. فرضنا رغم أنف عقيدة فؤاد شهاب لمراضاة إسرائيل، «اتفاق القاهرة». بعض التنظيمات الفلسطينيّة كانت جديّة في معركة تحرير فلسطين، فيما كانت دكاكين الأنظمة العربيّة المُخترقة تعجّ بالمشبوهين والجواسيس. أنا ملت نحو تنظيم جورج حبش. سمعته يخطب مرّة واحدة: لم أكمل إلى النهاية. بضع دقائق وقرّرت أن هذا الرجل لا يبيع ولا يشتري، ولا يشبه ياسر عرفات في شيء. علّمني جورج حبش عن «تحرير كل ملم مربّع من فلسطين المحتلّة».
وأثناء الحرب الأهليّة في لبنان، مات أبي. مات أبي بعدما أوصدوا فلسطين في وجهه، ولم يرها بعد ذلك. مات أبي وهو لم يثق بوعود نظام عربي واحد. كفر بهم وبغيرهم. عايش ثورة 1936 وكيف فرضت أنظمة المشيئة الاستعماريّة البريطانيّة وقفاً للنار كي يلتقط الصهاينة أنفاسهم مرّة أخرى. مات أبي والحرقة لم تغب عنه في سنوات الغربة القسريّة. حملت جثته ووقفت معها على الحدود مع فلسطين المحتلّة إلى أن تحلّلت. لكن جثّته ظهرت متدلاّة من شجرة زيتون في داخل فلسطين بعد أسابيع فقط. أوصى ألا يُدفن في أرض غير فلسطين. فاخترت أن تتحلّل جثته بين يدي كي أنثرها عبر الشريط مع فلسطين. وكلما مات أبي، وهو يموت أكثر من مرّة في العام، أتوجّه به نحو الحدود مع فلسطين.
تعلّمت في الحرب الأهليّة ألا أثق بطائفة. تناوبت الطوائف على نهش جسدي وعلى إراقة دمي. من ميليشيات مسيحيّة طائفيّة إلى ميليشيات شيعية طائفيّة (لم تقلّ وحشيّة عن ميليشيات الكتائب في حرب المخيّمات) إلى ميليشيات مؤازرة للحريريّة في حفلة تدمير مخيّم نهر البارد. أكلوا من لحمي وشربوا من دمي ورقصوا كلّهم على قبر أبي. رسموا الأرزة على شاهدة قبر جدّي، وبالقوّة. وزادوا في تعذيبي بأن اتهموني بالرغبة في التوطين في وطنهم المسخ هذا. توطين؟ أبيع أرزهم كلّه مقابل حبة زيتون أو حفنة حشائش من فلسطين. أرمي بكل آثارهم الفينيقيّة في عرض البحر مقابل برتقالة من يافا. أنا أتوطّن في مسخ وطنه هذا الذي كان منذ الإنشاء ظهيراً للكيان الغاصب؟ الذين يتهمون الشعب الفلسطيني بالرغبة في التوطين لم يزوروا فلسطين، ولم تطأ أقدامهم أرض مخيّمات شعب فلسطين في لبنان. ولو كنا ننوي التوطين لفعلنا أثناء الحرب الأهليّة. وعرفات على علاّته لم يرض بالتوطين. لكن التوطين كان من اختراع ميليشيات طائفيّة مسيحيّة وميليشيات طائفيّة شيعيّة لتسويغ حروبهم الوحشيّة وعنصريّتهم ضدّنا.
يتحدّثون عن شاكر العبسي، لكنهم لا يتحدّثون عن نضال حمد ـــــ هذا النموذج القدوة في النضال. لماذا لا يعرف أطفال المدارس في لبنان وفلسطين عن نضال حمد؟ يعرفون عن محمد دحلان ولا يعرفون عن نضال حمد؟ من قال؟ هذا الفتى المولود في مخيّم عين الحلوة الذي وجد نفسه عام 1982 (وهو يافع) وحيداً بعدما غادرت التنظيمات الفلسطينيّة لبنان. رأى الجيش الإسرائيلي في بيروت، فجنّ. لم يصبر أو ينتظر. أتى بقاذفة صواريخ على عجل ونزل إلى الشارع مزهوّاً مع رفيق له من جبهة التحرير الفلسطينيّة. وقف في نصف الشارع وصوّب نحو دبّابة إسرائيلية. تزامن إطلاقه القذيفة مع وصول حشوة الدبابة الإسرائيليّة إليه وإلى رفيقه. مات رفيقه على الفور. نضال لم يمت. طار نضال في الهواء. بقي يطير إلى أن هوى من دون ساقه أو قدمه، وبعدما ترك العدوّ بصمات له في شتى أنحاء جسد نضال، حمل نضال بقاياه ومضى إلى أقرب مستشفى.
نضال حمد لم يكلّ على قدم واحدة. لم يلتقط أنفاسه في صراعه ضد إسرائيل، لا في لبنان، ولا في المنفى في النروج. بساق واحدة أو ساقين، نضال حافظ على سرعة نضاله. نضال حمد هذا مرّة رأى تجمّعاً إعلاميّاً في أوسلو يغطّي وصولاً دعائياً لمَن أرسلته إسرائيل ليتحدّث كـ«ضحيّة» إسرائيليّة أمام الإعلام النروجي. لم يجد نضال حمد قاذفة صواريخ هذه المرّة. حنق نضال، وخلع سرواله أمام الملأ في الشارع، وعرض ما بقي من جسمه السفلي أمام عدسات الكاميرا. هذا ما فعلته إسرائيل بي، صرخ في وجوههم. تريدون ضحايا لعدسات الكاميرا، صوّروني أنا، أمرهم بغضب. صوّروا ما بقي منّي. صوّروا نضال حمد، لكن من دون قاذفة الصواريخ التي أدّت إلى طيرانه في الهواء. ويعيش نضال حمد اليوم في أوسلو مع زوجة ومع أولاد، ولكن من دون قاذفة صواريخ. من أخذ قاذفة الصواريخ من رفيقي نضال حمد ومن يعيدها إليه؟ استراتيجيا دفاعيّة؟ اسألوا نضال حمد.
أنا أسمعهم اليوم يتحدّثون عني دون أن يروني. زارنا وفد حكومي وأكّد أننا لا نعيش في فنادق من الدرجة الخامسة في مخيّمات البؤس. عاد الوفد الحكومي على عجل، ثم أمر بتدمير مخيّم نهر البارد فوق رؤوس سكّانه. قالوا إن عصابة لجأت إليه. كفى قولهم ليدكّ المخيّم فوق رؤوس أصحابه. كان الحدث كبيراً عندنا. للمرة الأولى تقوم حرب لبنانيّة ضد مخيّم فلسطيني دون مؤازرة تذكر من أي طرف لبنان سياسي. أحرقوا المخيّم واستنجدوا بقذائف وصواريخ عربيّة وأميركيّة، باسم «محاربة الإرهاب». أصبحت كلمة «إرهاب» (حتى في خطاب ميشال سليمان) ملاصقة لكلمة فلسطيني. هتف الشعب اللبناني بطوائفه احتفالاً بحرق المخيّم وتدميره. كلّهم لتدمير مخيّم نهر البارد. كلّهم لمسخ الوطن. والجيش اللبناني الذي لم يجد بعد موقع بطولة له في مواجهة إسرائيل (رغم تلّقيه عربات «هامفي» مستعملة وطائرات هليكوبتر تصلح لتدمير مخيّم فلسطيني آخر)، والذي يتلهّى بمطاردة المدوّن الشجاع خضر سلامة (ومطاردة المدوّنين أو تهديدهم باتا جزءاً من الاستراتيجيا الدفاعيّة)، «سجّل ملاحم» ضد المخيّم كما تقول مطبوعاته ومؤيّدوه في أوساط الشعب. لم يقف حزب واحد في لبنان ليناصر أهل المخيّم. عبارات «الإرهاب» ملأت الأسماع.
لكنهم اكتشفوا أخيراً «الحقوق المدنيّة» للشعب الفلسطيني. حتى حزب الكتائب والقوات اللبنانيّة وفؤاد السنيورة (وصفي تلّ لبنان) يتحدّثون عن الحقوق المدنيّة للشعب الفلسطيني. أيعلم هؤلاء أن العبارة وردت أوّل ما وردت في وعد بلفور؟ حقوق مدنيّة لأن الحقوق السياسيّة والقوميّة كانت وقفاً على اليهود، كما أراد المُستعمِر البريطاني. حقوق مدنيّة ونحن نطالب بتحرير فلسطين؟ وماذا تعني الحقوق المدنيّة؟ الحق في جمع القمامة؟ والحق في التصفيق لزوّار المخيّمات من حكومات لبنانيّة شاركت في معركة تدمير نهر البارد؟ فليبحث الجيش اللبناني عن بطولاته خارج المخيّمات، ولو كان يبحث عن مواقع ليسجّل فيها بطولات لأرشدته إلى مواقع على الحدود روتها دماء فلسطينيّة أكثر مما روتها دماء لبنانيّة رسميّة.
أنا لست بلاجئ، أنا ثائر. سأحافظ على سلاحي داخل المخيّمات وخارج المخيّمات وفوق المخيّمات وتحت المخيّمات. في كل مكان. وراء العدوّ، في كلّ مكان كما علّمنا وديع حدّاد. تستطيع الطوائف اللبنانيّة أن تستمر في مهرجانات الكراهية والبغض التي تتقن، وتستطيع أن تحصي أعداد أفرادها تحضيراً لجولات لا تنتهي من الحروب الأهليّة الوحشيّة في ما بينها، لكن ما شأني أنا؟ ما علاقتي بحروبهم الصغيرة؟ يريدون مني أن أقبل بمبعوثي محمد دحلان في المخيّمات؟ لا «اللينو» ولا غير اللينو في عين الحلوة. سأبقي سلاحي، مهما قالوا. لن يقرّروا عني في هيئات الحوار الهزليّة. ينصحني سمير جعجع وكل من تمرّس في خدمة إسرائيل عبر السنوات بتسليم السلاح الفلسطيني. دفنت أبي وأمي في هذه الأرض، لكنهم أوصوني بألا أدفن سلاحي. أدفن أولادي الأربعة ولا أدفن سلاحي. أسلمه لأولادي كي يسلّموه هم لأولادهم هم. أنا باقٍ هنا حتى أصل إلى هناك. وأرفض اعتذار عباس دحلان زكي بالنيابة عني. وطريق تحرير فلسطين تمرّ في جونية وعاليه وبعلبك، كما تمرّ في صيدا وصور.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا