فايز أبو عيد
قرأت وكتبت وعملت
كصحفي في شؤون اللاجئين الفلسطينيين، وكنت أنقل شجونهم وشؤونهم في كل بقاع الأرض، وعشت
آلامهم ومعاناتهم بكل تفاصيلها، وكيف لا وأنا لاجئ فلسطيني من قرية الجاعونة التي شرد
أهلها وطردوا من فلسطين ومازال حلم العودة إلى ترابها هو الهاجس الوحيد الذي يؤرقني
ويقض مضجعي.
لن أسهب كثيراً
في وصف المشاعر لكن سأنتقل لسرد الوقائع والأحداث و النكبات والمآسي التي حلت بي ولم
أكن يوماً أتوقع أن أعيشها كما عاشها والدي وأجدادي الذين شردوا من وطنهم إلى أصقاع
الأرض المترامية.
أصل الحكاية
قصتي، هي واحدة
من آلاف القصص التي سطرت بمداد من الدم والألم المعجون برائحة البارود والبراميل المتفجرة
ورصاص القناص والموت الذي كان قاب قوسين أو أدنى مني ومن عائلتي، والمجبولة بالصور
والذكريات المفرحة والمؤلمة.
منذ بداية الأزمة
السورية عام 2011 اختار اللاجئون الفلسطينيون سياسة الحياد الإيجابي وعدم التدخل بالشؤون
الداخلية لسورية كونهم ضيوف على هذا البلد، وبالفعل استطاع مخيم اليرموك أن يستقبل
ويحتضن آلاف المنكوبين الذين نزحوا من المناطق المجاورة للمخيم وفتحوا لهم البيوت والمدارس
والمساجد، وقدموا ما أمكن من سبل الإغاثة والمعونة علها تخفف عنهم المأساة التي وقعوا
فيها.
وما كان مني أمام
هول المشهد والمأساة الكبيرة إلا الانخراط بالعمل الإنساني والإغاثي إضافة لعملي الإعلامي،
لنقل معاناة النازحين وإيصال صوتهم، فتطوعت للعمل في مدرسة المنصورة الواقعة في شارع
المدارس بمخيم اليرموك لخدمة هؤلاء النازحين والتخفيف من وطأة ما حل بهم من مأساة.
قصص وروايات عديدة
سمعتها من العائلات القاطنة في مأواها الجديد، منها ما يقشعر لها الأبدان ويدمي القلب
ويجعلك تذرف الدمع دون إرادة منك، عند دخولي مدرسة المنصورة لأول مرة هالني منظر عشرات
العائلات وهي تفترش الأرض وتلتحف السماء, فتلك أم شاردة الذهن فقدت تركيزها العقلي
بسبب فقدانها لأبنائها الثلاث في القصف الذي استهدف منزلهم، وذاك طفل صغير فقد والديه
جراء قذيفة هاون أصابت السيارة التي كانوا يستقلونها فمات الأب والأم وبقي هو وأخته
التي لا تبلغ من العمر سوى عشرة سنين، وهؤلاء مسنون لا حيلة لهم سوى التضرع إلى الله، وأطفال فقدوا ملامح الطفولة
وبدت عليهم مشاعر البؤس والإرهاق, نساء فقدن أزواجهن يحتضن أطفالهن المفزوعين.
لن أنسى أبداً
تلك المسنة الفلسطينية أم أحمد التي خرجت وحيدة من حي الحجر الأسود بريف دمشق بعد أن
قتل أولادها جراء قصف صاروخي طال منزلهم، كانت دائمة البكاء على أحبة فارقوها وتركوها
لتواجه مصيراً مجهولاً دون معيل.
بعد ذلك تدهورت
الأوضاع الأمنية في مخيم اليرموك وزج به عنوة في أتون الصراع الدائر في سورية عام
2012، وذلك لموقعه الجغرافي الهام، حيث تعرض في بداية الأحداث لوابل من القذائف التي
عرضت سكانه لخطر الموت، وكانت الفاجعة الأكبر حينها عندما قصف شارع الجاعونة يوم
2/ أغسطس/ 2012 وأدى ذلك إلى حدوث مجزرة في
الشارع راح ضحيتها أكثر من 20 لاجئاً فلسطينياً، وهنا يتبادر إلى ذهني كيف كتب الله
لي النجاة من الموت باختياري المرور من شارع صفد بدل من شارع الجاعونة في تلك الآونة،
فقد كنت عائداً من زيارة صديق لي في نهاية شارع الجاعونة وأنا في الطريق رن هاتفي المحمول
فكان المتصل زوجتي التي طلبت مني أن أجلب لها شراب العرق سوس، وعندما وصلت إلى مبتغاي
سمعت صوت انفجار قوي لم أعلم مكانه، وبعد لحظات كانت قذيفة أخرى سقطت ورأيت أحدهم يصرخ
قصفوا شارع الجاعونة، هرعت مع الراكضين إلى شارع الجاعونة، صدمني المنظر الذي رأيته، كان الغبار يملأ المكان والنيران مشتعلة، وصرخات
الأطفال والنساء تتعالى، والأشلاء في المكان، هرعنا وانتشلنا بعض الجثث والجرحى.
عدت إلى منزلي
وأنا منهار بشكل كامل ولم يغمض لي جفن يومها، كنت أبكي بحرقة على الأطفال والنساء والرجال
الأبرياء الذين ماتوا دون ذنب، ولكن الذي كان يهدأ من حزني وألمي أنهم ماتوا في شهر
فضيل ومبارك شهر رمضان وقبل الإفطار عندها ترحمت عليهم واحتسبتهم شهداء عند الله.
بعد ذلك تتالت
الاشتباكات وتعرض المخيم للقصف بقذائف الهاون، وسقوط الشهداء من أبناء اليرموك حتى
جاءت الطامة الكبرى وهي قصف النظام السوري يوم 16 كانون الأول/ ديسمبر 2012 جامع عبد القادر الحسيني ومدرسة تابعة للأونروا
بالطيران الحربي، مما أسفر عن سقوط أكثر من 200 شهيد وجريح، وقتها وللصدفة مرة أخرى كنت قريباً من مسجد عبد القادر
الحسيني عندما سمعت صوت انفجار قوي عندها انتابني الخوف الشديد من هول وشدة الانفجار،
لأول مرة في حياتي أعرف معنى الخوف الحقيقي، ركضت مع الناس التي كانت تركض ظناً مني
أنني أهرول نحو الأمان، ولكن شاهدت ما لم تراه عيناي من قبل، شاهدت دمار و أشلاء وجثث
لم تعرف معالمها لم أتمالك نفسي فكانت دموعي أقوى من رجولتي، حاولت إدراك الموقف ولكن
الخوف بقي يراودني فلم أعد قوياً وعلامات الانهيار قد بدت بوضوح على ملامحي، خاصة عندما رأيت أم صديقي محمود وهي جالسة على الأرض
في حالة صدمة حقيقية لا تعرف ما يجري حولها، ولكنها عندما رأتني صرخت بأعلى صوتها محمود
.. محمود يا فايز أين هو هدأت خاطرها قليلاً وقلت لها إنني سأبحث عنه، لكن يا ليتني
لم أبحث وأشاهد منظره وهو مضرج بدمائه، ماذا أقول لوالدته؟ كيف اخبرها؟ محمود ذاك الشاب
الخلوق مدرس اللغة الانكليزية، قبل قليل رأيته وهو ذاهب لأخذ أمه من شارع فلسطين إلى
حارات التقدم خوفاً عليها أن تصاب بأذى، ها هو يودع الحياة ويترك جرح عميقاً في قلب
والدته التي كانت تمني النفس أن تزوجه وتفرح بأولاده.
هي لعنة الحرب تصيبنا بمقتل وتدخلنا في نفق مظلم
لا نهاية له، وإلى يومنا هذا لا تزال تلاحقني كوابيس المجزرة ومنظر اللحم على حيطان
المسجد والجثث المقطعة على الأرض، ألم يكن يدري ذاك الطيار الذي رمى تلك الصواريخ اللعينة
أنه لم يستهدف فقط حي ومسجد وأزهق أرواحاً بريئة، بل استهدف أحلاماً وطموحات بنيت تحت
سقف هذا المخيم البسيط.
بعد قصف طائرات
الميغ لمسجد عبد القادر الحسيني لملم أبناء اليرموك حقائبهم على عجل ونزحوا بشكل جماعي
من مخيمهم ليعيشوا رحلة تيه أخرى، أما أنا فلم تكن فكرة الخروج واردة في ذهني رغم ما
شهدته من جموع غفيرة تغادر اليرموك في اليوم الأول، إلا أن الوضع على الأرض زاد توتراً
وباتت المعركة على أشدها ودخلت مرحلة التفكير بالعائلة والأطفال هنا دقت ساعة الرحيل،
وأعلنت عن ميلاد هجرة جديدة من مخيم اليرموك.
نزحت أنا وعائلتي
المكونة من أربعة أفراد وعائلة أخي المكونة من سبعة أفراد وعائلات أشقاء زوجتي البالغ
عددهم 12 فرداً إلى منطقة مساكن برزة بدمشق، هرباً من الموت المحتم بعد أن قصف الطيران
الحربي جامع عبد القادر الحسيني ومدرسة الفلوجة، ودخول المجموعات المسلحة التابعة للمعارضة
السورية إلى المخيم.
لحظات رعب عشتها
أنا وعائلتي أثناء خروجنا مع الآلاف من مخيم اليرموك، حيث كانت الجحافل من أهالي المخيم
تغادره، منهم من يحمل والده على ظهره، ومنهم من يجر والدته المريضة أمامه، نساء أطفال
يبكون، حالة من الرعب بادية على محياهم، صدمة وذهول أصابني، وبت في حيرة من أمري، ماذا
أفعل؟ وكيف أتصرف؟ أولادي وزوجتي خلفي ينظرون إلى الناس ويرمقونني بعيون خائفة، وفي
طريقنا لم نسلم من رصاص وحقد الغادرين الذين فتحوا فوهات بنادقهم على المدنيين، حيث
أصابت رصاصة قناص امرأة لم تكن تبعد عنا سوى بضع خطوات، صراخها ودمائها التي سالت كانت
كفيلة أن تبعث مزيداً من الخوف والرعب في نفوس جميع من كان بالقرب منها، تعالت صرخات
النساء والأطفال، استطعنا بعد ذلك الخروج من المخيم إلى حي الزاهرة الدمشقي.
بعد أن خرجنا بسلام
من مخيم اليرموك وقفنا حائرين في منطقة الزاهرة بدمشق لا ندري إلى أي مكان نلجأ، حينها
اقترح أخي أن نذهب إلى أقاربنا في مساكن برزة، بالفعل ركبنا سيارة نقل صغيرة (هوندا)
وتوجهنا إلى مساكن برزة بدمشق طلباً للأمن والأمان.
من تحت الدلف إلى تحت المزراب
تزامن وصولنا إلى
بيت أحد أقاربنا في يوم بارد جداً تتساقط فيه الثلوج، ونظراً لعددنا الكبير اضطررنا
إلى الإقامة في شقة غير مكسية ولا يوجد فيها أي وسيلة للتدفئة، هذا إضافة إلى الماء
الذي كان يدلف علينا من سقفها، ليلة عشناها من أصعب ليالي حياتنا برد قارس وماء ينساب
من سقف الغرفة، لم أنم ليلتها لأن ذاكرتي عادت بي إلى ما كنت أقرأ عنه من ألم ومأساة
وعناء كابده أهلنا عندما هجروا من أراضيهم عام 1948، إذاً هي النكبة الثانية التي نمر
بها، هو نفس الألم والمعاناة نعيشها بعد 67 عاماً، هو نفس مذاق العلقم الذي تجرعه أبناؤنا
وأجدادنا.
بعد مضي حوالي
الشهرين على تواجدنا في منطقة مساكن برزة، تدهور الوضع الأمني فيها جراء الاشتباكات
التي حدثت بين الجيش النظامي، وقوات المعارضة السورية المسلحة في منطقة برزة البلد،
فكان لبرزة نصيب من القذائف والتفجيرات، فقد انفجرت في يوم واحد أربع سيارات مفخخة
في محيط المنزل الذي أقيم فيه، بعد عدة أيام تجددت الاشتباكات واحتدمت فتعرض المنزل
الذي أقطنه لسقوط قذيفة هاون دون أن تسفر عن إصابة أحد، هنا انتاب الجميع حالة من الهلع
والخوف وعلت صرخات زوجتي وأولادي وأولاد أخي وأطفال، صرخاتهم المدوية التي لا يزال
صداها يتردد في آذني إلى الآن هي السبب التي جعلني أحزم أمري وأقرر مغادرة سورية إلى
لبنان، رغم علمي أنني سأكابد فيها عناء الحياة، ولكنني كنت أنشد الأمن والاطمئنان لعائلتي.
لبنان محطة انتظار
وألم
وصلت إلى لبنان
عام 2013 أنا وعائلتي، ذهبت إلى منزل كان قد استأجره لي صديقي قبل أن أغادر سورية،
بعد فترة من الزمن لحق بي أخي هو وعائلته المكونة من سبعة أشخاص، ومن ثم جاء عائلتين
أخريين وأصبح منزلي يحتوي أربع عائلات، حيث بلغ عدد الأفراد المتواجدين في البيت حوالي
22 شخصاً، لقد كتب على اللاجئ الفلسطيني أن يعاني ويتجرع الحنظل ويبقى بين متاهة اللجوء
الذي يتبعه نزوح ونزوح ولجوء إلى آخر العمر.
في لبنان انخرطت
أيضاً في العمل التطوعي في إحدى اللجان الأهلية التي كانت تعنى بشؤون اللاجئين الفلسطينيين
المهجرين من سورية إلى لبنان، كي أخدم أبناء شعبي.
أزمات معيشية واقتصادية
وإنسانية مركبة يواجهها فلسطينيو سورية في لبنان، على كافة المستويات الحياتية والاقتصادية
والاجتماعية الذين يعيشون ظروفًا قاهرة، ووضعًا مأساويًا ليس له مثيل على كافة المستويات
الحياتية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية، في بلد لا يعترف بهم كلاجئين إنما كسائح
مما ضاعف المعاناة وزاد من المأساة، هنا حاولت قدر المستطاع أن أنقل ذاك المشهد البائس
ليكون شاهداً على ما حل بالفلسطيني السوري فبادرت إلى إعداد التقارير الإخبارية التي
تتناول حالهم وإيصالها إلى القنوات التلفزيونيةومنصات التواصل الاجتماعي، علنا نجد من يسمع ويهرع للتخفيف من معاناتهم وإنهاء
مأساتهم وإيجاد حل لأوضاع هؤلاء اللاجئين المشردين
المعذبين في الأرض الذين طالت مأساتهم وفقدوا كل ما يملكون في رحلة التيه، تركوا خلفهم
كل ما جنوه عبر سنوات العمر خرجوا بثيابهم لا يعرفون إلى أين المفر وأين ينتهي بهم المستقر،
تفرق شملهم وتشتت جمعهم في أصقاع الأرض، فرست سفنهم في بلدان مختلفة إلا أنهم لم يشعروا
بالأمان على شواطئها، في حين يشتعل قلبهم شوقاً إلى منازلهم وممتلكاتهم، وينبعث منه
سعار الحنين و لهيب الأشواق إليها، فيذرفون الدمع على ما حل بهم ومخيماتهم من دمار وخراب، فالحديث عن مرتع الصبا له نكهته
الخاصة، الممزوجة بالمذاق الحلو المر و بالآمال والأحلام، فهذخ المخيمات لا يمكن أن
تنسى حتى ولو تجرأت الذاكرة على النسيان،، فرغم الدمار الذي أصابها ستبقى أيقونة في
الروح والوجدان يعشعش في محراب القلب والذاكرة فتدمع العين ويلتمع الأمل وينتحر الألم.
تركيا محطة لجوء
أخرى
دفعني تأزم الأوضاع
في لبنان وعدم الشعور بالاستقرار نتيجة ما شهده من احتجاجات شعبية خرجت رفضا للطبقة
السياسية الحاكمة، وفشل الحكومات المتعاقبة في حل الأزمات الاقتصادية والمالية، لاتخاذ
القرار لململة حقائبي والهجرة نحو تركيا وكلي أمل أن أتابع رحلتي نحو اليونان ومنها
إلى إحدى الدول الأوربية بحثاً عن حياة كريمة تحفظ ماء الوجه وأعامل فيها كإنسان له
احترامه.
وصلت إلى تركيا
أنا وعائلتي يوم 5/11/2019 وكنت أنوي أن أمكث فيها لأيام معدودة ريثما أتدبر أمري وأنطلق
لركوب قوارب الموت إلى اليونان ومن ثم إلى الحلم المنشود، لكن بسبب قلة ذات اليد وعدم
وجود المال قررت أن أبقى في تركيا لحين الفرصة المناسبة، وكأنه كُتب على اللاجئ الفلسطيني أن يظل يقرع الخزان كما
صوره غسان كنفاني في رائعته "رجال تحت الشمس" الصادرة عام/1963/، والذي رسم
الواقع الفلسطيني في اللجوء، وكأنه بهذا يسوقنا لأسئلة جارحة ضبابية مبهمة الملامح
تُعري اللحظة وتمسك الروح من لجامها الذي لا ينفك، فإيقاع القرع عند غسان هو إيقاع
الدم على جسد الثورة، لقد كان ذلك الخزان هو صورة مصغرة لحالة اللجوء في الوطن العربي،
وما يتعرض له اللاجئ الفلسطيني في مختلف البلدان العربية من مآسي وأهوال.