لكي تنتصر الانتفاضة
بقلم: هاني المصري
ليس المطلوب المبالغة في الجدال حول تسمية ما يجري، «هبة»، «موجة»،
«انتفاضة»، «ردة فعل دفاعية»، فما يجري بغض النظر عن التسمية دليل حي جديد على
قيامة المارد الفلسطيني من القمقم الذي عاش فيه، خصوصًا خلال السنوات العشر
الماضية.
لقد سقطت كل التحليلات التي نظّر أصحابها بأن زمن الانتفاضات قد ولّى،
وأن الشعب الفلسطيني تمزّق وأمعن في الإحباط وتنعّم بالسلام الاقتصادي وخيرات
السلطة، وأنه لن تقوم له قائمة لفترة طويلة.
لقد أظهرت «الانتفاضة» بأن الفلسطينيين قادرون على التحرك بالرغم من
الانقسام الأسود والدمار العربي وتهميش قضيتهم، وتفوق إسرائيل واستفرادها بهم
متسلحة بالدعم الأميركي والعجز والنفاق الدولي، وأثبتوا أنهم قادرون على الفعل في
أحلك الظروف، ورغم وجود قيادة لا تريد الانتفاضة، لأنها تخشى من عدم السيطرة عليها
وبروز قيادة جديدة، ومن عواقب تغيير قواعد اللعبة التي سارت عليها منذ أوسلو وحتى
الآن، ومن طرف ثانٍ يراهن على متغيرات إقليمية ومشروع سياسي ديني، ويريد توظيف
الانتفاضة للعب في الوقت الضائع إلى حين استيقاظ المارد «الإسلامي»، وللخروج من
مأزقه وإضعاف خصمه الداخلي.
أدرك الفلسطينيون مرة أخرى أن عليهم قلع شوكهم بأنفسهم من دون انتظار
أحد، مثلما فعلوا عندما انطلقت ثورتهم المعاصرة من دون انتظار الوحدة العربية، ولا
نجدة الأممية البروليتارية، ولا قيام دولة الخلافة الإسلامية، واستطاعت الثورة أن
تجمعهم في كيان وطني واحد، وحوّلت قضيتهم من مسألة إنسانية إلى قضية تحرر وطني
مدعومة من كل أحرار العالم.
صحيح أن التلقائية التي تميّز الموجة الانتفاضية حتى الآن هي مثل أي
عفوية تجسّد جنين الوعي، لذا يمكن أن تكون المرحلة الأولى على طريق بلورة الوعي
و»بروفة» لاندلاع انتفاضة شاملة، قادرة على الانتصار إذا حددت أهدافها، وصاغت
الشعار الرئيسي لها، وبلورت قيادة موحدة قادرة على جمع الشعب خلفها.
الفرق الرئيس بين الموجة الانتفاضية والانتفاضة: أنّ الموجة ردة فعل
عفوية يحرّكها الغضب أو اليأس، وسرعان ما تنحسر غالبًا دون تحقيق أي شيء، ويشارك
فيها قسم من الشعب، بينما الانتفاضة لها هدف وقيادة، وقادرة على الاستمرار مدّة
كافية لتحقيق أهدافها، وحتى تستطيع ذلك لا بدّ من مشاركة غالبية الشعب، الأمر الذي
لم يحدث حتى الآن.
إن الانتفاضات لا يصنعها اليأس كما هو شائع، وإنما يحركها الأمل والثقة
بإمكانية تحقيق النصر. فثورة الثلاثينيات من القرن الماضي كانت تملؤها الثقة
بإمكانية الانتصار على الحركة الصهيونية ومشروعها الاستعماري الاستيطاني العنصري،
وانتفاضة الحجارة العام 1987 كانت واثقة بقدرتها على تحقيق الحرية والاستقلال،
أما انتفاضة الأقصى العام 2000 فكانت انتفاضة لإقامة الدولة الفلسطينية وكسر
القيود المذلة لاتفاق أوسلو.
هناك عدة عوامل تؤخر اندلاع الانتفاضة الثالثة بالرغم من توفر الكثير من
أسباب اندلاعها، أهمها:
أولا: عدم التناسب بين التضحيات الغالية التي قدمها الشعب الفلسطيني خلال
أكثر من 18 هبة وثورة وانتفاضة
فجّرها منذ نشوء ما يسمى القضية الفلسطينية وحتى الآن، وبين الانتصارات التي
حققها.
لذا فالخوف من فشل الانتفاضة وانزلاقها نحو الفوضى والفلتان واستثمارها
لتحريك المفاوضات لصالح أفراد وشرائح من الأسباب التي تفسّر عدم اندلاع الانتفاضة
في السنوات السابقة، وعزوف الشعب عن المشاركة الواسعة في الموجة الانتفاضية
الحالية. وإذا اقتنع الشعب بقدرة التحرك الراهن على الانتصار، ولو بتحقيق هدف
أساسي واحد، من خلال استيعاب عبر ودروس التجارب السابقة فسينخرط في تفجير انتفاضة
عظيمة غير مسبوقة.
ثانيًا: عدم وضوح ما هو البرنامج الوطني، وهل لا يزال إقامة الدولة على
حدود 1967 بعد أن تلاشت إمكانية
تحقيقها في ظل التوسع السرطاني الاستيطاني، ومع صعوبة، بل استحالة، تحقيق هدف
تحرير كل فلسطين، أو الدولة الواحدة بأي صيغة من الصيغ في ظل التيه والضعف
والانقسام الفلسطيني والعربي. لذا فإن أهمية تحديد الهدف الأساسي للانتفاضة
الحالية مضاعفة مقارنة بأي انتفاضة سابقة.
إن هذه الظروف والأسباب تجعل الانتفاضة الثالثة تأخذ شكل الموجات
الانتفاضية المؤقتة والمحلية التي شهدناها طوال السنوات الماضية، وتندلع على خلفية
عنوان واحد مثل الاستيطان أو الأسرى أو الأقصى، فما تكاد تنحسر موجة إلا وتظهر
موجة أخرى.
وحتى نوضح ما سبق، نشير إلى أن الانتفاضة الأولى ابتدأت بصورة عفوية،
وقامت الفصائل برئاسة ياسر عرفات بقيادتها، وعندما اعتقدت القيادة بأن رسالتها قد
وصلت قبل الأوان استعجلت بقطف ثمارها، ما أدى بالترافق مع متغيرات عربية ودولية
إلى القبول باتفاق أوسلو الذي كان أسوأ اتفاق تعقده حركة وطنية مع عدوها.
وعندما حاول ياسر عرفات تغيير قواعد اللعبة في الانتفاضة الثانية فعل ذلك
متأخرًا ودفع حياته ثمنًا لذلك، وظهرت بعده قيادة فلسطينية اعتقدت أن أحد أسباب
فشل أو إفشال اتفاق أوسلو أن الأداء الفلسطيني كان سيئًا، وأن الالتزام بروحه
السلمية التي تقوم على أن «المفاوضات حياة» والأسلوب الوحيد لتحقيق الأهداف كان
ضعيفًا، إضافة إلى الجمع ما بين تنفيذ الالتزامات وإدانة الإرهاب، وبين تبني
المقاومة وتشجيعها، بما في ذلك العمليات الاستشهادية.
على أساس هذه القراءة الخاطئة والمغلوطة كليًا تمت إعادة إنتاج اتفاق
أوسلو بشكل أسوأ، واعتمد نهج إثبات الجدارة وحسن النوايا واعتماد التمنيات
والاستجداء وبناء المؤسسات كطريق لإنهاء الاحتلال، من خلال البرهنة على أن هناك
إمكانية لإيجاد فلسطيني جديد قادر على المساهمة في توفير الأمن والاستقرار
لإسرائيل ضمن صيغة «خارطة الطريق» الدولية، صاحبة المرجعية الأمنية، التي أُفِرغت
من أي نقاط إيجابية بعد أن ربط شارون بين الموافقة الإسرائيلية عليها بالتحفظات
الأربعة عشر، التي أفرغتها من محتواها وحوّلتها إلى «خارطة طريق» إسرائيلية.
في هذا السياق طَرَحْتُ سؤال «ما هو هدف الانتفاضة وشعارها الناظم؟» على
أصدقائي على موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»، وعلى عدد من معارفي، واطلعت حول ما
كُتِب حوله فوجدت طائفة لا تنتهي من الآراء والاقتراحات، التي ابتدأت بالمطالبة
باعتبارها انتفاضة الاستقلال، ومرّت باعتبارها تجسيدًا لبقاء شعلة المقاومة مستمرة
إلى حين تغيّر الظروف ولم تنته باعتبارها انتفاضة العودة والتحرير.
في ضوء ما سبق، وفي ظل موازين القوى والأوضاع الفلسطينية والعربية
والإقليمية والدولية؛ قد يكون من التعسف والمبالغة تحميل هذه الموجة الانتفاضية
مهمة دحر الاحتلال كليًا، وتحقيق الحرية والاستقلال بضربة واحدة، بل إن الإصرار
على ذلك يهدد بأن تكون الانتفاضة مجرد صفحة مجد جديدة في التاريخ الفلسطيني،
ومهددة بأن تنزلق إلى الفوضى وأن تخمد من دون أن تحقق أي شيء سوى، وفي أحسن
الأحوال، عقد جولة جديدة من المفاوضات التي تُوظّف لتكريس الاحتلال.
إذا نظرنا بإمعان، وبحثنا عن نقطة الضعف القاتلة لإسرائيل التي هي محل
نقد لها على امتداد العالم كله، بما فيها الولايات المتحدة الأميركية، وحتى من بعض
الأوساط الإسرائيلية؛ نجد أنها الاستعمار الاستيطاني. فهو لا يزال مرفوضًا وغير
شرعي وغير قانوني، وحسمت الفتوى القانونية لمحكمة لاهاي أمره دوليًا حين اعتبرته
باطلا ولا ينشئ حقًا ولا يترتب عليه التزام.
تأسيسًا على ما سبق، من الأفضل أن يكون شعار الانتفاضة الناظم وقف بناء
المستعمرات الاستيطانية وتأكيد الموقف القانوني الدولي بعدم شرعيتها من خلال صدور
قرار من مجلس الأمن يؤكد ذلك، والبت بضرورة إزالة وتفكيك كل المستعمرات التي أقيمت
سابقًا، وما ترتب عليها من مصادرة أراضٍ وتهويدها وطرد سكانها وهدم منازل
واعتداءات على المقدسات، خصوصًا الحرم القدسي الشريف.
مثل هذا الشعار يُجمع عليه الفلسطينيون رغم خلافاتهم، فيقبله أصحاب
برنامج الدولة والمفاوضات، وكذلك أصحاب برنامج التحرير الكامل والمقاومة. وهو هدف
يستحق التضحية من أجله، وقابل للتحقيق إذا كان أو أدّى إلى بلورة رؤية شاملة
وخارطة طريق كاملة ترى بضرورة إغلاق الطريق كليًا على إحياء ما سمي «عملية السلام»
والمفاوضات الثنائية استمرارًا لاتفاق أوسلو وملحقاته، وأن الكفاح الفلسطيني ضد
الاستعمار الاستيطاني العنصري طويل ولا يمكن الانتصار فيه بالضربة القاضية وإنما
بالنقاط، وخصوصًا أن المستوطنين بلغوا من التطرّف حدّ الجنون، وبما لا يجعل
حكومتهم قادرة على السيطرة عليهم، وهذا يسهل تحريض العالم كله عليهم.
يمكن أن يكون للموجة الانتفاضية الحاليّة أهداف عدة تنبثق من الهدف
الناظم، تتمحور حول الحرم القدسي، وإنهاء الحصار على غزة، وإطلاق سراح الأسرى،
وإزالة الحواجز، ووقف العدوان ضد الفلسطينيين، والتخلص من أوسلو والتزاماته،
وإنجاز الوحدة عبر إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير.
إن الانتصار في المعركة ضد الاستعمار الاستيطاني يفتح الطريق لانتصارات
أكبر على طريق تحقيق الأهداف والحقوق الوطنية الفلسطينية.
وتتوقف القدرة على تحقيق هذا الانتصار على تحويل موجة الانتفاضة الحالية
إلى نمط حياة، بحيث تندلع موجة إثر أخرى نطلق عليها جميعًا «الانتفاضة الثالثة» مع
مراعاة الحرص على ألا يترتب عليها خسائر فادحة لا يقوى الشعب على تحمّلها. وهذا
يتطلب اعتماد الانتفاضة على المقاومة الشعبية والمقاطعة وملاحقة إسرائيل دوليًا،
والمحافظة على الطابع الشعبي للانتفاضة، وتجريم استخدام السلاح الناري في المظاهرات
والمواجهات على الحواجز ومن بين الأحياء السكنية، بحيث لا يستخدم السلاح إلا في
مجال الدفاع عن النفس، أو لاستهداف قوات الاحتلال وقطعان المستوطنين المسلحين
الذين يقومون بالاعتداءات المتواصلة، وعدم اللجوء إلى العمليات الاستشهادية وإطلاق
الصواريخ من غزة؛ حتى لا تتمكن إسرائيل من تحويل المواجهة إلى حرب عسكرية تستطيع
أن تستخدم تفوقها العسكري وتسويق ادعاءاتها بأن المقاومة «إرهاب».
لا يعني ما سبق أن الانتفاضة يجب أن تكون سلمية تمامًا، بل لا بد من تفهم
إبداعات الشعب وتجسيده لأشكال النضال، بما فيها المبادرات الفردية، خصوصًا كتلك
التي تستهدف الدفاع عن النفس وردع المستوطنين وجعلهم يفكرون أكثر من مرة قبل أن
ينفذوا اعتداءات جديدة.
المصدر: الأيام، رام الله