القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الثلاثاء 26 تشرين الثاني 2024

لماذا فلسطين؟

لماذا فلسطين؟

نهلة الشهال

المواجهات الجارية الآن على امتداد فلسطين، في ضفتها الغربية والقدس، وكذلك في "أراضي 1948"، تقول أشياء متعددة، لا تندرج أبداً في باب الشعر والعواطف.

هي تشير أولاً إلى فشل "التطبيع" مع "إسرائيل". صحيح أن التاريخ، الطويل اليوم، من القمع والتهديد بشتى صنوف العقوبات المؤذية، والإغراء أيضاً بمزايا الاستسلام أو التواطؤ، في ظل التخلي المقابل، من المحيط (الذي تُردد أصوات نافذة فيه أن موضوع فلسطين انتهى، عدا السياسات العربية، الفعلية إن لم تكن الرسمية، التي تمارس ذلك وأكثر!)، أو انشغال بهموم وأوضاع كارثية في بلدان المنطقة، وأزمة القيادة الفلسطينية بكل تياراتها، وعجزها أو تخليها، كل ذلك معاً أدى إلى حالة من "الإحباط" التي تغلِّف الموضوع الفلسطيني، ولعل أبرز تظاهره سيادة المقاربة الدينية له على سواها، حيث الدين هو في نهاية المطاف ملجأ بديهي. لكن، وعلى ذلك كله، تَظهر وبلا انقطاع، موجات متلاحقة من الفلسطينيين، تناهض ميدانياً وبالموقف، السياسة الإسرائيلية وتتصدى لها. وهو تجدد جيلي، يقاوم كل عوامل الإحباط تلك ولا يأبه لها. يقاومها بالحجر والسكين والمولوتوف، وبالموقف ودلالته، وهو لا يقتصر على ذلك الحيز الديني السهل الاستنفار.

المهم في الأمر، بروز جيل شبابي في فلسطين "الخط الأخضر"، أي في عمق "إسرائيل"، التي أزالت عملياً ذلك الخط المقر أممياً حين احتلت القدس والضفة الغربية في 1967، وقامت بضم ما تشاء من المناطق إليها، وبنت المستوطنات بتوسع لا يتوقف خارج ذلك الخط... الوهمي. ليس مصادفة أن يوم الأرض بدأ هناك، وليس بلا دلالة أن تشهد مدن يافا وحيفا والناصرة وبلدات عدة في "1948" تظاهرات صاخبة لأبنائها، تُقمع بشراسة. هذه إشكالية أولى وكبرى، تضع "إسرائيل" وجهاً لوجه مع حقيقة استحالة سحق المسألة الفلسطينية ومحوها، وبالتالي مع "نوعية الحياة" التي يمكنها توفيرها لمواطنيها، الذين قد يأمنون على أنفسهم في بعض أحياء تل أبيب ومنتجعات أخرى، لكنهم ما إن يضعوا أقدامهم خارج الغيتوات التي شيدوها لأنفسهم، حتى يتعرضوا لـ "الرعب"، بينما يُطلب من المستوطِنين عدم الخروج من أماكنهم إلاّ مسلحين، وتقرر الحكومة الإسرائيلية الإسراع في بناء الطرق الخاصة بهم لتوفير الحماية لهم. وهذه كلها إجراءات "حرب" يُتوقع أنها... دائمة. أي أن الصراع مستمر!

صحيح ثانياً، أن التمرد الحالي على الانتهاكات الإسرائيلية للمسجد الأقصى يجري بلا إطار سياسي ينتظمه، وبلا أفق عام. وهذه خاصية خطيرة، تفتح المجال لحالة منفلتة من العنف الذي لن يجد له خلاصات محددة (كما حين أنْضَجت الانتفاضة الأولى شروط أوسلو مثلاً)، وهو ما يسائِل بلورة خاصيات وملامح الطور الراهن من النضال الوطني الفلسطيني، أو تبيّنها، حيث، ومنذ نشوء المسألة الفلسطينية وقد مرت بمراحل محددة، تخللتها فترات "سكينة" أوحت بأن الأمر استتب إلى حد بعيد لـ"إسرائيل"، ثم تنهار (مثلاً بين النكبة 1948 وحين قام العمل الفدائي 1965، وبين 1967 و1987 مع الانتفاضة الأولى).

في المقابل وثالثاً، يقصد الانتفاض الحالي التصدي لمحاولات "إسرائيل" فرض أمر واقع على الأقصى، هو توزيع المكان زمنياً وجغرافياً بين المسلمين واليهود، وشرعنة وجود الأخيرين فيه، تمهيداً للخطوة التالية وهي قضمه بالكامل وإزالته بحجة بناء "الهيكل" مكانه، وهو فعلياً محوٌ لرمزيته في وجدان هذا "الآخر" بما يتعدى فلسطين نفسها. هناك أولاً خاصية للفعل الصهيوني لم تتوقف منذ وجود هذه الحركة وبعدها "إسرائيل"، هي التدرج والتجريب، فيجري التقدم بخطى صغيرة أحياناً، وتثبيتها ثم تجاوزها إلى ما يتعداها حين تنجح، وهكذا. وينطبق الأمر على السلوك الإسرائيلي الحالي حيال الأقصى. ولعله ذو دلالة كبيرة أن يقرر نتانياهو منذ يومين منع حضور الوزراء والنواب الإسرائيليين الى الأقصى ليتجنب "استفزاز المشاعر" كما قال، ووقوع الصدامات (الانتفاضة الثانية اندلعت عقب "زيارة" شارون للأقصى، وهو قصد حينها إعلان التخلص من أوسلو ومن عمليته "السلمية"). ولكنه لم يمنع زيارات المستوطنين، وهي الأفدح والأعنف! ولعله يقصد التخفف من العبء الرسمي لمثل هذه الاستفزازات، وما قد يستجره من ضغوط دولية واحراجات إقليمية. وفي هذا نصف نجاح لحراك الشباب الفلسطينيين، وفيه في المقابل تهديد ضمني بإفلات "المواطنين" الإسرائيليين، وهم فعلياً ميليشيا مسلحة. ولعل فيه أيضاً اضطرار نتانياهو لمسايرة هذا الوحش الذي صنعته "إسرائيل" والذي لا حلّ له. فاعتماد الخطاب الهستيري والسياسة التي تتطابق معه، يحتمان وجود الحالة الاستيطانية، وهذه تستولد المزيد من ذلك الخطاب وتلك السياسة، وهكذا... ولكن المأزق أنه من دونهما تتحلل "إسرائيل"...

ورابعاً، وليس أخيراً، يتأسس على ما سلف، أن "إسرائيل" لا يمكنها: بنيوياً وتكوينياً وسياقاً تاريخياً وسوسيولوجياً الخ...، أن تكون كياناً "عادياً". ليست دولة كسواها ولن تكون. هناك ألف شرط متعلق بهذه السمة، لعل أهمها وأبرزها أنها تدور في حلقة مفرغة، فتستولد قيادات تعود إلى نقطة الصفر لو جاز القول، وكأنها بصدد عملية انتزاع "حق" "إسرائيل" في الوجود والدفاع عنه بلا توقف. ويرتبط بذلك ما نشاهده من تجاوز لتلك القيادات باتجاه المزيد من العُصاب، حيث يبدو شارون "معتدلاً" مقارنة بنتانياهو، ويبدو هذا الأخير "معتدلاً" مقارنة بقادة ما يسمى "اليمين القومي والديني المتطرف" (أكثر من نتانياهو!) في "إسرائيل"، الذي توجد رموزه في الحكم هناك. وتمارس "إسرائيل" سياسات تتناقض جوهرياً مع ما تدّعيه من انتماء لقيم حداثية وغربية، فتقوم مثلاً بتطبيق العقاب الجماعي على الفلسطينيين، كهدم بيوت عائلات من يرتكب منهم عملاً عنفياً (بقرارات رسمية دائماً، وكما يحدث بكثافة واستعجال الآن). وهذا فعْلٌ "عشائري" لا يندرج في أي ميثاق ولا يمكن للعقل قبوله. وتظهر الميليشيا المسلحة أو المستوطنين كبند آخر في استحالة العاديّة تلك. كما تظهر السمة الخرقاء لتجريم التضامن بين أبناء فلسطين، بمن فيهم الحائزون على الهويات الإسرائيلية، وذاك العربي والإسلامي معهم (لو تركنا هنا البعد العالمي، وهو يندرج في سياق آخر)، بينما تقوم الايديولوجيا الصهيونية في شقها الشعبوي والتعبوي على فرضية "الوعد الإلهي" لليهود، و"العودة" لـ"ايريتز إسرائيل"، وأن كل يهودي أينما كان هو إسرائيلي حكماً الخ... فلماذا تصح هذه الايديولوجيا هنا، ويُستهجن ذاك التضامن هناك؟ منطق أعوج!

الحياة، لندن