لماذا لا تدخل العراقيب موسوعة قينس؟!
بقلم: رشاد أبوشاور
العراقيب قرية فلسطينية تقع في صحراء النقب، وهي محتلة منذ العام 1948، ولأن الحرب لم تنته منذ ذلك التاريخ، فإن العراقيب تخوض حربا دفاعية عن نفسها، عن جذورها، عن هويتها العربية الفلسطينية، وبهذا فهي تختصر كل أبعاد الصراع العربي الفلسطيني - الصهيوني، وإن كانت لا تنفرد وحدها في هذا الشأن.
المشروع الصهيوني في الجوهر، في السر وفي العلن، يقوم على فكرة اقتلاع الفلسطينيين من وطنهم، وتحويل فلسطين كاملة إلى (دولة يهودية) صرفة في قلب الوطن العربي، والشرق الأوسط، وهو ما عبّر عنه أب الصهيونية هيرتزل في كتابه (الدولة اليهودية) الطافح بالعنصرية والأكاذيب والأوهام، والذي يقر بأن دولته ستكون جسرا للغرب، وامتدادا لحضارته، وحارسة لمصالحه في قلب الشرق الهمجي!
الفلسطينيون بمقاومتهم الباسلة التي لم تهدأ منذ بدايات الغزوة الصهيونية مستظلة بالانتداب البريطاني.. وحتى يومنا هذا، نجحوا في إيقاف زحف المشروع الذي يتهدد الأمة العربية، بثباتهم في أرضهم، وبمقاومتهم بشتّى أشكالها، وفي مقدمتها المقاومة المسلحة. الفلسطينيون رغم نكبة 48 بقوا خنجرا في حلق الكيان الصهيوني، وهم بددوا مخططات قادة الكيان الصهيوني الهادفة لتمزيق وحدتهم وتماسكهم. منذ البداية حاول عتاة الصهاينة أن يضعوا فواصل ويزرعوا حساسيات بين أبناء المدن والأرياف، بين البدو وشعبهم الفلسطيني.. وهذا الأمر بدأ إبّان زمن الانتداب، فمن يقرأ مشروع التقسيم سيدهشه أنه تمت الإشارة للبدو وكأنهم ليسوا عربا فلسطينيين، فهم في الدولة الممنوحة لليهود يبلغون 90 ألفا.. ولكن يشار إليهم كبدو، وهذا حتى لا يكون عدد العرب الفلسطينيين في الدولة الممنوحة لليهود أكثر من عدد اليهود. كان عدد العرب الفلسطينيين في مشروع تلك الدولة 405 ألفا.. وعدد اليهود 460 ألفا.. وأشير إلى البدو بأنهم يبلغون 90 ألفا.. فتأملوا! دائما كانت بريطانيا وأمريكا تخططان لتمزيق وحدة الشعب الفلسطيني.. كانت سياستهما متطابقة مع المخططات الصهيونية.. وما زالت، وستبقى إلى أن تهزم بإرادة أمتنا، وجماهيرها الثائرة التي تسقط أنظمة الحكم العميلة التابعة التي تسببت لأمتنا بالهزائم، والنكبات، والفرقة، والضعف. بعد نشوء دولة الكيان الصهيوني عام 48 بدأت سياسة تمزيق وحدة الشعب الفلسطيني، فتّم التركيز على فصل البدو عن باقي المجتمع العربي الفلسطيني.. وعومل الدروز العرب على أنهم حالة مختلفة! هذا المخطط الخبيث بدأ يفشل بكفاح أبناء النقب.. بتشبثهم بأرضهم، ورفضهم للتجنيد، وحفاظهم على هويتهم العربية.. ومن أكثر وأنقى منهم عروبة.. هم الذين ما زالوا يعيشون بتقاليدهم العريقة في صحرائهم.. وباديتهم، وعلاقاتهم، وثقافة انتمائهم، ودينهم؟! من يتأمل خارطة فلسطين، سيدرك أهمية النقب.. المنطقة الاستراتيجية.. المتاخمة لمصر.. ولا سيما صحراء سيناء حيث بدو سيناء الذين يرتبطون معهم بصلات القربى. حرب الاحتلال والاقتلاع الصهيونية لم تنته عام 48.. فإعلان دولة الصهاينة شيء، وتحقيق الأهداف شيء آخر.. والأهداف لا تتحقق ما دام يوجد على أرض فلسطين قرابة 5 ملايين عربي فلسطيني.. مع التذكير بأن الفلسطينيات خصبات جدا، والأعداد في ازدياد.. وحرب الديمغرافيا لا تهدأ ولا تتوقف.. وهي كابوس لقادة الكيان ومنظريه العنصريين! أهلنا في النقب يعيشون في كثير من قراهم تحت سقوف من التنك - وهذا ما يُجهل عنهم، وعن معاناتهم، وروح المقاومة التي يتحلون بها- لأنهم يرفضون التخلّي عن أرضهم، ومبادلتها بقطع أرض تطوّب لهم بعيدا عن بئر السبع، وصحراء النقب، والأماكن العزيزة على قلوبهم التي أورثهم إياها أجدادهم وآباؤهم. لم تنجح سياسة الصهاينة مع أهلنا في النقب.. ولذا تراهم وقد انتقلوا للعنف.. فالجرافات التي تهدم بيوت القدس، نفسها التي تهدم بيوت الفلسطينيين في النقب، وتحاول اقتلاعهم من جذورهم، ورميهم بعيدا عن الصحراء التي استأنفوها هم وقطعانهم، وزرعوها وجعلوها مراعي خصبة، وبنوا فيها بيوتا.. وعلموا أبناءهم وبناتهم، وطوروا حياتهم رغم كل أساليب العدو في تجهيلهم، وخططيه لاجتذابهم (للجيش) بحجة أنهم بدو.. وأنهم يختلفون عن فلسطينيي المدن والقرى! قرية العراقيب باتت العنوان لصمود وصلابة وعناد أهلنا في النقب، بله للشعب الفلسطيني كله، على كل أرض فلسطين، وفي الشتات والمنافي البعيدة والقريبة. هذا الكلام ليس من فوق الأساطيح.. كما يقال لوصف كلام الفشر!.. هذا الكلام مدفوع الثمن دما، وبناءً، وانزراعا في الأرض، وعبورا بالسلاح للقتال على ثرى فلسطين.. واستشهادا، وصبرا في السجون الصهيونية. العراقيب هدمت حتى الآن 31 مرّة.. يهدمها الاحتلال فيعيد أهلها بناءها.. وأهلنا في النقب يهبون لنجدتهم.. فزعة كما يقال، والفزعة تقليد فلسطيني عريق يجسد روح الجماعة وتماسكها وتواشجها. أهل العراقيب يبنون.. فتتقدم الجرافات محروسة بالآليات العسكرية، والجنود المدججين بالسلاح.. وتبدأ عملية الهدم.. ومن أن تفرغ الجرافات من الهدم حتى يستأنف أهل العراقيب البناء من جديد! يُعّد أهل العراقيب الطين من تراب وماء أرضهم، ويحضرون الحجارة.. حجارتهم التي لهم معها تاريخ، ويرفعون الجدران من جديد.. ثم يقفون عراة الصدور، مشمرين عن زنودهم السمراء بجوار بيوت بسيطة أليفة تنبت من الأرض تماما كأهلها. هكذا يبني فلسطينيو العراقيب والنقب.. باسم شعب فلسطين، ويهدم الصهاينة منفذين تعاليم توراتهم وتلمودهم وخرافاتهم في أبدان وأرض الفلسطينيين بأنياب الجرافات، ورصاص البنادق، وصواريخ الطائرات! العراقيب ملحمة زمننا.. وإن تجاهلها الأقربون والأبعدون.. وفي هذا إدانة لكل متجاهل، وعارف صامت.. ومقصّر استمرأ التقصير مع فلسطين، وورث التقصير، ولكل مراء يكذب حين يذكر اسم فلسطين معداً مآثره في التضحية.. فالتضحية لفلسطيني ليست وقفة عابرة، أو حسنة وصدقة مناسباتيه.. التضحية لفلسطيني فعل دائم يتساوق مع تضحيات شعب فلسطين. ملحمة العراقيب تستحق أن تصل إلى العالم كله لأنها تعبّر عن جوهر الصراع بيننا وبين عدونا الصهيوني.. بين أخلاقنا وقيمنا.. وانحطاطه الفكري والأخلاقي والقيمي. العراقيب يجب أن تتحول إلى أيقونة تعلّق على صدر شعبنا، وأمتنا في زمن الثورات الشعبية العربية. العراقيب تستحق أن تقدم فيلما وثائقيا.. وكتبا.. وحكايات يقرأها أطفالنا! العراقيب تستحق أن تدخل كتاب موسوعة قينس للأرقام القياسية.. فمن هي القرية التي بناها أهلها 31 في أشهر قليلة.. وهدمها المُحتّل.. وأعادوا بناءها من جديد؟!العراقيب هي طائر الفينيق الكنعاني الذي يخرج من رماده حيا كلما احترق. العراقيب هي الثقافة والتحضر والمدنية العربية الفلسطينية.. وهي جرافة الهدم الصهيونية الغربية الاستعمارية! العراقيب قضية إنسانية.. وهي تضيف زهوا للثورات الشعبية العربية.. فمن يوصلها إلى أهلها أولاً.. وإلى العالم ثانيا؟!
وإلى أهلنا أقول: أرجوكم أن تتقدموا بالعراقيب إلى موسوعة قينس للأرقام القياسية بعدد مرات الهدم والبناء لقرية واحدة وفي زمن قياسي.. ولنمتحن القائمين على هذه الموسوعة.. فهذا أمر أوسع وأرفع وأجل من أن يكون سياسة محضة.. إنه تحضر ومدنية.. ولذا فهو يهم البشر أجمعين.. يا أهل العراقيب.. يا من تجسدون عزيمة وصبر وجلد وعناد شعب فلسطين.
المصدر: عرب 48