القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الإثنين 25 تشرين الثاني 2024

لماذا لا يصدق الأطفال وقوعهم في المجازر؟ تجربتي الشخصية

لماذا لا يصدق الأطفال وقوعهم في المجازر؟ تجربتي الشخصية

بقلم: ياسر علي

مشهد الطفل الحلبي "عمران" الخارج من المجزرة، والذي مسح وجهه بكفّه فعلق عليها بعض الدماء، فاحتار أين يمسحها. وببراءة الطفل الذي يحاول أن يفعل شيئاً دون أن يلفت الانتباه مسحها بالكرسي الذي أجلسوه عليه. دفع الكثيرين للتساؤل: لماذا لا يدرك عمران ما حوله؟ وما هي الأبعاد النفسية والاجتماعية لذلك؟

يردّ بعض علماء التربية هذا إلى غياب الإدراك عند الأطفال، إدراك الأحجام المادية والمعنوية لديهم. وهذا جزء من التفسير، وأضيف من عندي إليه.

الطفل في مجتمعه لا يدرك إلا ما يرى، ويشعر بالطمأنينة بين أهله مهما بلغت المخاطر، فهو لا يخاف، ويستغرب لماذا يخاف عليه أهله! ولا يصدق ما يجري لأنه ما زال بين أهله! ولا يتوقع لأنه يعيش يومه مطمئناً في كنف أهله الخائفين!

ومن وقائع ما عشناه في طفولتنا، ثلاثة حصارات، لم نشعر بالخطر، وكنا متأكدين أننا لن نموت فيها، رغم كل ما رأيناه وسمعناه من قصص الموت.

الحصار الأول كان في مخيم تل الزعتر عام 1976، وكنت في السادسة من عمري. حيث كنا كأطفال نلعب أثناء القصف، ونشكّل القلوب من السيراميك "نحفّها طوال الوقت بالجدران لننجز من الحجر قلباً"، وكان أكبر همّنا أن نستطيع ثقبه دون أن ينكسر، ونمرّر فيه الخيط.. بعد ذلك ننتظر عودة المقاتلين من المحاور التي لا تبعد أكثر من 200 متر عن بيوتنا، فيعودون ومعهم زهور الغاردينيا، فنعطيهم القلوب ونفوز بالغاردينيا بسلام.

وتسقط قذيفة أمام بيتنا فتقتل رجلاً يحمل طفلة، فيقذف ضغط القصف الطفلة عدة أمتار، فنخرج نحن الأطفال مع الرجال الذين سيحملون القتيل، ويهتم الجيران بأمر الطفلة، أما نحن الأطفال فنقضي نهارنا نتحدث عن القتل كأنه حكاية ما قبل النوم.

يُجرح والدي برصاصة قناص عند حنفية الماء "المصدر الوحيد للماء في مخيم تل الزعتر أثناء الحصار". وفي مكان آخر تصيب رصاصة أخرى عمي في رأسه، فيُستشهد ويدفن قريباً منا، ونتابع نهارنا نحن الأطفال بسلام.

تمرّ امرأة كانت تُسمى "أبو علي" تحمل رأساً حزّته عن جسد أحد المهاجمين، فنتفرج على الرأس المقطوعة، ونقضي بقية اليوم نتحدث عن بطولة المرأة، لا عن بشاعة المشهد.

يمرّ رجل راكضاً أمام بيتنا، مصاب في بطنه، يمسك أحشاءه التي تتفلت من بين يديه وأصابعه، ليصل إلى المشفى. فنتندّر نحن على المشهد، ويمضي النهار كأن شيئاً لم يكن.

كنا نساهم في دعم الصمود باللعب، ونزوّد المستشفى والمقاتلين بالشمع. وذلك حين فتح المقاتلون بعض المخازن في المنطقة فوجدوا فيها ألواح الشمع الكبيرة، كنا نذوّب الشمع في علب السردين الفارغة وغيرها من العلب والأشكال، ونُغرق فيها قطعاً طويلة من القماش نستخدمها كفتيل للإشعال. وكنا نتبارز في تشكيل أطول شمعة واهتدينا إلى لفّ ورق صور الأشعة المستعملة في المستشفى، ونصبّ فيها الشمع.

كل ذلك ولم نكن ندرك أننا ذاهبون إلى الموت بعد أيام. كنا نلعب ونضحك. ونستغرب من تشاؤم أهالينا، حين نلعب ورق الشدّة "الكوتشينا"، فيصرخون: بدكم شِدّة أكثر من هالشدّة. وحين نلعب "الزقاليط أو الخمسة أحجار"، يصرخون "مش مْكَفّينا الدنيا عم تْزَقْلِطنا" أي تَرْمينا.. فنضحك على ما يقولون، ونتابع اللعب بسلام.

وحين خرجنا من المخيم، وحدثت المجزرة التي سقط فيها الآلاف، كنا نرى أمهاتنا ومن حولنا يبكون بطريقة هستيرية، فيما كنا نجلس على الأرض مثل "عمران"، ننظر في الوجوه المسودّة والثياب المعفّرة. ولا نفهم خطورة ما جرى، فلم نتفاعل معهم بالصراخ.

غير أن الحدث الذي أثّر بي وما يزال، ليس خطف أخي شهراً كاملاً، بل مواويل أمي وبكائياتها ثم عودته ولقاؤنا به، وكان لقاءً في منتهى الإدهاش والانفعال.

وأعترف إنني لم أعش خطورة وإجرامية الحدث إلا بعد أكثر من عشر سنوات من المجزرة. وصارت تبكيني بعض المشاهد التي ذكرتها حين أسردها، رغم أنها لم تبكِني حين عشتها.

الحصار الثاني، في الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، كنا في بيروت في بداية الاجتياح، كنا نذهب إلى الجامعة الأمريكية في بيروت AUB من أجل مشاهدة مباريات كأس العالم. اتفق أبي مع شرطيين لبنانيين ليوصلانا أنا وأخي إلى خارج بيروت، كان الأمر عادياً بالنسبة إلي، غير أنني في تلك اللحظة رأيت عيني والدي دامعتين.. وكنت أظن أن أبي لا يبكي، فحفظت المشهد في ذهني وذكّرته بها قبل وفاته منذ عامين رحمه الله.

بقي أبي محاصَراً في بيروت، وبقينا نتابع أخبار كأس العالم من إذاعتي لندن ومونتي كارلو حتى خسارة البرازيل أمام إيطاليا، بكيت يومها لهذه الخسارة!

أما الحصار الثالث، في رمضان، شهر أيار/مايو من عام 1985، في حرب المخيمات، كنا نجوب المخيم طولاً وعرضاً "لا تخبروا أمي بذلك!"، ونلعب الكرة في الزواريب، ونتجمع عن الحنفية "حيث يملأ الماء منها معظم سكان المخيم"، وكانت أمي رحمها الله تنهرنا لأنها تتذكر كثرة الشهداء على حنفية الماء في تل الزعتر عام 1976، ويبدو أن الذين يحاصرون المخيم أدركوا ذلك فقصفوا المكان عدة مرات، وسقط عدد من الشهداء.

وكان بعض الأصدقاء يقول: لماذا الخوف من صوت القصف، علماً أن القذيفة التي تسمع صوتها لن تقتلك، والتي ستقتلك لن تسمع صوتها.

من تجربتي الشخصية، لم يكن الحصار بالنسبة إلي، حرباً ستؤدي إلى الموت. ولم أكن أعرف أن الموت قريب جداً مني. ولم يكن مفهوم الموت يخترق العائلات ويصل إليها في مخابئها، فقد كان كنف العالية كافياً، ليس للشعور بالطمأنينة فقط، بل لغياب فكرة الخطر والموت كلياً عن الأطفال.

من أجل هذا، يخرج الطفل -عمران وغيره- من المجازر وهو مصدوم، ثم ما يلبث أن يسأل نفسه: لماذا؟ ويبقى هذا السؤال معلقاً، حتى يفهم لاحقاً ما حصل.. وتبدأ مأساته بالتعاظم، وكلما حاول التذكر تعاظم الأمر، إلى أن يصبح لديه اطفال في سنّه يوم المجزرة، فينعكس هذا خوفاً على أولاده، وربما يصبح وسواساً قهرياً لا يستطيع السيطرة عليه.