القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الثلاثاء 26 تشرين الثاني 2024

لماذا يتجاوز الشعب الفلسطيني قياداته؟

 لماذا يتجاوز الشعب الفلسطيني قياداته؟

بقلم: علي جرادات

في بدايات المواجهة مع الغزوة الصهيونية انطلقت من القدس قلب فلسطين النابض، في العام 1929، شرارة «ثورة البراق» التي شكلت ذروة هبات، (1919 و1921 و1922). وبعد مرور نحو ثلاث سنوات على «أوسلو» انطلقت من القدس، في العام 1996، شرارة «هبة النفق» المسلحة، وشرارة انتفاضة 2000، رداً على زيارة رمز التطرف الصهيوني، شارون، لباحات الأقصى، وشرارات هبات جماهيرية متتالية وعمليات فدائية بطولية، شهدها العام 2014 الماضي منذ حرق الفاشست الفتى أبو خضير حياً، وصولاً إلى شرارة الهبة الشعبية الجارية والمتصاعدة.

إن كان هنالك من أهمية للإشارات السريعة السابقة، فهي التأكيد على ما للقدس من قيمة وطنية سياسية ومكانة روحية سماوية، أمعنت حكومة الاحتلال الفاشية في انتهاكها، حين تمادت في تنفيذ مخطط تهويد القدس وتقسيم الأقصى زمانياً ومكانياً، حتى جاء الشهيد البطل مهند الحلبي، وأصدر، بدمه وعمليته الفدائية في قلب القدس، البيان الأول لتوسيع نطاق هبة القدس والأقصى المستمرة والمتصاعدة، بما تخللها، ولا يزال، من عمليات طعن ودهس وإطلاق نار وزجاجات حارقة، حيث استجابت جماهير مدن وقرى ومخيمات الضفة من أقصى جنوب مدينة الخليل إلى حاجز الجلمة في جنين، واستمات الشباب على أسيجة قطاع غزة المحاصر في الشجاعية ورفح وخانيونس وبيت حانون، وخرجت القلعة العربية الشامخة، ناصرة البشارة، في تظاهرة كبرى، وحذت حذوها عروس البحر، يافا، وكفر كنا وأم الفحم وكفر قاسم وسخنين التي شهدت، يوم الثلاثاء الماضي، مسيرة تلاها مهرجان خطابي، أعلن المشاركة لا التضامن، أمام عشرات الألوف من فلسطينيي 48، بل ونظم اللاجئون مسيرات واعتصامات في عمان وبيروت ومخيم برج البراجنة، وغيرها من مواقع الشتات.

هنا، يتضح بما لا يقبل الشك أن الشعب الفلسطيني كما في كل منعطف تاريخي، إنما يوقِّع، بدم الشهداء والجرحى، على الوثيقة الأبدية لوحدته، ويؤكد وحدة نسيجه وبنيته وهويته الوطنية الكفاحية، القائمة على نسغ لا يموت، تمثله الأهداف الوطنية التحررية في الحرية والاستقلال وحق العودة، باعتبارها نواظم الفعل الشعبي والمحرك الأساسي للجماهير.

بل ويؤكد لنخبه القيادية المنقسمة والمترددة والمتلكئة أنه في وادٍ غير وادي حساباتها ومصالحها الفئوية الضيقة، وأنه لا يلتفت لخلافاتها ومماحكاتها، وأنه دوماً مَن يعيد، حين يجد الجد، البوصلة إلى وجهتها، وهذا ما يفعله منذ أسابيع، إن كان في الميادين أو في تنظيم الجنازات الحاشدة المهيبة في كل موقع سقط فيه شهيد، ما يشكل استفتاء شعبياً بالدم على مواصلة الكفاح، وعلى الوحدة الوطنية الميدانية، التي تحتاج إلى إنهاء الانقسام وبناء وحدة سياسية، تتشكل على أساسها «قيادة وطنية موحدة»، تدفع الهبة الشعبية إلى مداها، وتنظم فعالياتها، وتحدد لها هدفاً سياسياً وطنياً ناظماً.

فالشباب المنتفض في فلسطين التاريخية من أقصاها إلى أقصاها، لا يلتفت، ولا أظن أن أغلبه التفت يوماً، إلى راية أي فصيل، بل إلى الراية الوطنية التي تزين جثامين الشهداء المحتفى بهم.

أما عموم الناس في فلسطين، فخرجت إلى الميادين بحسها الوطني الوحدوي المتعطش لمقاومة محتل عنصري فاشي يمتهن القتل والحروب ويرفض أي تسوية سياسية تلبي ولو الحد الأدنى من الحقوق الوطنية الفلسطينية، فما بالك بالتاريخية منها.

لقد خرجت الناس بعد أن تيقنت من فشل 22 عاماً من جولات التفاوض العبثي المدمر، وبعد أن أعياها نحو 10 سنوات من مماحكات إعادة اللحمة إلى الجسم القيادي الوطني.

هنا ثمة برهان آخر على أن الشعب الفلسطيني في طريق آخر غير طريق قياداته بيمينها ووسطها ويسارها.

ولعل في تصاعد الهبة الشعبية الجارية واتساع نطاقها ما يشي باستعداد هذا الشعب لتجاوز كل الأطر القيادية، إن هي كررت مع معركته المحتدمة ما فعلته مع معارك وهبات سابقة، حيث لم تبادر إلى تشكيل قيادة وطنية موحدة، كان من شأن تشكيلها، أن يحول دون تحويلها، ببطولاتها الفذة وتضحياتها الجسيمة وإبداعاتها النادرة، إلى مجرد صفحة مجد.

ولمَ لا يتجاوز الشعب الفلسطيني قياداته؟ في معركة مفروضة وشرسة، ومحطة وطنية مفصلية، بعدها غير ما قبلها، حيث سال دم كثير، وبات صوت الشعب عالياً وواضحاً في نأيه عن حالة الانقسام، بينما لم يدفع كل هذا طرفيه إلى التقدم خطوة واحدة لطي صفحته السوداء.

فهل من المعقول ألا تتم المبادرة إلى استغلال فرصة هذه الهبة عبر التوحد ورص الصفوف لأجل قيادتها؟ وهل يحتاج الأمر إلى مزيد من الدم حتى يصل إلى العروق المتكلسة في أجساد فصائل تبارك الفعل الشعبي ولا تتقدم صفوفه؟ وكأن دور القيادة أن تصفق لا أن ترسم علامات الطريق؟!! لقد كشفت هذه الهبة البطلة المتصاعدة، كما لم يحصل من قبل، ظهر المنقسمين، وعرت ذرائع انقسامهم المدمر الذي جعلهم، ولا يزال، غير قادرين على الاقتحام وتبني الحركة الشعبية وقيادتها ببرنامج وطني وديمقراطي موحد يعيد للشعب دوره ومشاركته، لا في صندوق انتخاب مؤسسات سلطة شكلية، بل في ميدان الفعل ورسم السياسة الوطنية، ما يوجب خطوة تعيد للشعب ثقته لا بنفسه، فهو يمتلكها ويعتد بها، بل بقيادته التي ينبغي أن تكون أمينة على طموحاته وأحلامه.

قصارى القول: بعد كل هذا العدد من الشهداء والجرحى والمعتقلين، وبعد هذا الانتشار والتصاعد في الفعل الشعبي في مواجهة قمع جيش الاحتلال الفاشي واستباحات عصابات مستوطنيه، لم يعد سؤال الشارع الفلسطيني عن قيادة «السلطة الفلسطينية» ودورها، لقناعتهم بأنها، بشقيها في الضفة وقطاع غزة، لا تقوى، بفعل شروط قيامها والتزاماتها، على قيادة هذه الهبة، بل بات يتساءل عن دور الفصائل التي تبدأ بياناتها، وما أكثرها، بدعوة جماهير شعب مناضل إلى النهوض، وهو الذي يسبقها بحسه العفوي، ويجترح المآثر ويقدم الشهداء والجرحى، فيما هي، الفصائل، وعلى الرغم من علو نبرة بياناتها، لا تزال غير قادرة على كسر حلقات العمل البيروقراطي المتكلس، وتجديد العزيمة في المواجهة.

ما يطرح السؤال: هل بعد كل هذه البطولات والتضحيات التي يتحمل القسط الأكبر منها جيل شاب في عمر الورد، لا يزال مسموحاً أو جائزاً أو مشروعاً، لفصائل تسعى إلى القيادة، وأحياناً إلى الحكم، ألا تتجاوز مشاركتها في هبة شعبية أذهلت العالم وأربكت العدو وقلبت حساباته مشاركة أي فتى وفتاة، وتتخلى، بالتالي، عن أداء دورها القيادي،

والقيام بالمسؤولية الملقاة على عاتقها، في توجيه هبة شعبية متصاعدة، بما يحميها ويطورها لتصبح انتفاضة ونمط حياة؟

الخليج، الشارقة، 18/10/2015